جبهة نتنياهو الثامنة

27 نوفمبر 2024
+ الخط -

لطالما تحدّث رئيس حكومة إسرائيل، نتنياهو، عن الجبهات السبع التي تحارب فيها إسرائيل، ولطالما أكّد أن إسرائيل سوف تنتصر عليها مجتمعة. وبينما لم تستطع إسرائيل حسم حربها في أيٍّ من هذه الجبهات، وبينما تتواتر التسريبات بقرب التوصل إلى اتفاقٍ قد يفضي إلى توقف القتال بين إسرائيل وحزب الله، يحقق لإسرائيل هدفها بالفصل بين الساحات، ويؤدّي إلى عودة محتملة لسكان الشمال إلى مستوطناتهم، يصرّ نتنياهو على فتح جبهات جديدة في مواجهة أعداء الداخل. والحقيقة أن الجبهة الداخلية هي الأقدم من بين هذه الجبهات كلها، وما يفعله نتنياهو حالياً استغلال الحرب الدائرة في تحقيق الانتصار في معاركه السياسية المؤجلة في الداخل، بعد أن كشفت الأحداث أن الائتلاف الحاكم، الذي كان يخطّط للانقلاب السياسي عبر تطبيق الثورة القضائية، أصبح، وفقاً لتعبير الصحافي في "هآرتس"، يوسي فيرتر، أقوى من أي وقت مضى.

كان أعداء نتنياهو قبل الحرب محصورين في رجال السياسة، ومنافسيه السياسيين، غير أن الحرب كشفت عن ضعف كل قوى المعارضة، وعدم جدارتها بإدارة المعركة ضد نتنياهو وحكومته، علاوة على استغلال الحكومة الحرب في تحجيم دور الشارع بدرجةٍ واضحة. كما كشفت لنتنياهو أيضاً عن عدو جديد يتمثل في قادة المؤسّسات الأمنية؛ وفي مقدّمتها قيادة الجيش، واعتبار هذه المؤسّسة معوقة له عن الحكم من دون قيود. وعلى حد تعبير محلّلين إسرائيليين، لم تنشأ هذه الرؤية على وقع اختلاف الآراء بين رئيس الحكومة والجيش، وإحراج القادة العسكريين لنتنياهو منذ 7 أكتوبر (2023)، بل نشأت منذ وقف كثيرون من ضباط وجنود الاحتياط ضد الثورة القضائية التي أرادت الحكومة تمريرها عقب تشكيلها مباشرة، ومن ثم، ربما رأى نتنياهو، الذي تعلم الدرس، أن الفرصة أصبحت مواتيةً لكي يُخضع الجيش لسيطرته.

كان أعداء نتنياهو قبل الحرب محصورين في رجال السياسة، ومنافسيه السياسيين، غير أن الحرب كشفت عن ضعف كل قوى المعارضة، وعدم جدارتها بإدارة المعركة ضد نتنياهو وحكومته

وفي هذا السياق يمكن استيعاب موجات الهجوم المتتابعة التي يطلقها أنصار الحكومة ضد قادة الجيش، وترويجهم نظرية المؤامرة، والخيانة الداخلية، ومحاولة الانقلاب العسكري. وفي الإطار نفسه أيضاً، ينبغي فهم أن إقالة وزير الحرب (السابق) غالانت لم تكن من أجل التخلص من خصم سياسي، والصداع الذي يسببه أو معارضته داخل الحكومة، مثلما صوّر الإعلام الإسرائيلي، ولا من أجل تخوّف نتنياهو من المقارنة الدائمة بينه وبين وزير الحرب المقال في استطلاعات الرأي بشأن الأجدر بإدارة الحرب؛ غالانت أم نتنياهو، مثلما كتب يوسي فيرتر في "هآرتس"، بل يفهم في سياق سعي نتنياهو إلى إحكام السيطرة على الجيش، وتعيين شخصٍ يمتثل لأوامره، حتى لو نظر إليه الإسرائيليون "غير كفء، ومثيراً للسخرية، وفاشلاً". وهذا ما كشفت عنه أولى خطوات كاتس، حين رفض ترقية ضابطين من القيادة الجنوبية، كان رئيس الأركان هاليفي أوصى بتعيين أحدهما قائداً في لواء المظليين، والآخر في قيادة وحدة يهلوم، وهي وحدة هندسية لمهامّ خاصة، وتحجّج كاتس في رفضه بضرورة التحقيق في علاقة الضابطين بأحداث 7 أكتوبر، وأدائهما خلال الحرب. ولا يُستبعد أن يكون كاتس، أو بالأحرى نتنياهو، قد تأثر هذه المرّة بما يقوم به وزير الأمن القومي، بن غفير، الذي يجري بنفسه، طبقاً لما كتبه الصحافي يهوشوع برينر في هآرتس أغسطس/ آب الماضي، المقابلات من أجل اختيار قيادات شرطية، والتي مكّنته من التحكّم في الشرطة عبر تعيينه عشراتٍ ممن يحظون بثقته وتتوافق مواقفهم معه، في مناصب عليا في جهاز الشرطة.

الشاهد هنا أن إقالة غالانت جعلت رئيس الأركان وحيداً في مواجهة نتنياهو وحكومته، وهو من ثم لن يكون قادراً على المواجهة. وبذلك يتحوّل الجيش ليصبح جيش دفاع بيبي (نتنياهو)، لا جيش الدفاع الإسرائيلي، في مواصلة سياسته التي بدأها منذ شكّل حكومته الحالية بتفكيك مؤسّسات الدولة واحدةً وراء أخرى، مثلما كتب المحامي والناشط الحقوقي، إيتي ماك، في موقع العين السابعة الإسرائيلي.

خطاب نتنياهو العدائي تجاه قادة الأجهزة الأمنية يهدف إلى الضغط على هؤلاء القادة لعدم مقاومة قراراته التي تهدف إلى مزيدٍ من السيطرة على الجيش

ومن الواضح أن خطاب الدقائق التسع الذي قدّمه نتنياهو في الأيام الماضية مهاجماً بشكل مباشر القادة العسكريين و"الشاباك" بسبب فضيحة التسريبات التي يمكن أن تطاوله شخصياً، حمل لهجة معادية وتهديدية تجاه هذه المؤسّسات، وهو خطاب دفع المسؤول الكبير السابق في "الشاباك" والباحث الكبير في معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية بجامعة رايخمان، ليئور آكرمان، للقول إن نتنياهو عازم على إكمال المواجهة، حتى لو كانت الدولة ذاتها هي الثمن. تكرّر ما أثاره آكرمان، في مقال الصحافي في يديعوت أحرونوت، يوسي يهوشوع، بعنوان "جبهة أخرى لنتنياهو، أين مسؤولية الجيش؟" معبّراً عن دهشته من تجاهل رئيس الوزراء الحديث عن الأهداف من الحرب الأصعب التي تواجهها في الجبهات المختلفة، أو الاستفادة من إنجازات الجيش العسكرية، وهو في الوقت نفسه يقوم، ومعه وزير حربه الجديد، بمواجهة المنظومة الأمنية.. ويقود هجوماً غير مسبوق ضد النّظام برمته، ويشنّ تحريضاً مباشراً ضد الجيش، بدعوى إخفائه معلومات حيوية عنه، وتسريبها بشكل متعمّد لوسائل الإعلام، رغم أن نتنياهو تجاهل قصداً، بحسب لفظ يهوشوع، التسريبات التي جرت عبر مقرّبين منه، والتي تطغى على اهتمام الإعلام الإسرائيلي منذ الكشف عنها في الأسبوعين الماضيين. ولعل العبارة الأخطر في خطاب نتنياهو قوله "سوف ننتصر في هذه الجبهة أيضاً"، ما يعني، والعبارة ليهوشوع، أن الانتصار لن يكون فقط على إيران وحزب الله و"حماس"، بل أيضاً على قادة الجيش، أولئك الذين يقودون الحرب المعقّدة متعدّدة الجبهات.

وأغلب الظن أن خطاب نتنياهو العدائي تجاه قادة الأجهزة الأمنية يهدف إلى الضغط على هؤلاء القادة لعدم مقاومة قراراته التي تهدف إلى مزيدٍ من السيطرة على الجيش، إذ يُراد من مثل هذه الاتهامات المستمرّة حول "الخيانة من الداخل، والانقلاب العسكري على السلطة السياسية، والفشل في السابع من أكتوبر.." تصوير الشعب، المتمثل في أنصار نتنياهو والحكومة، في مواجهة القيادة العسكرية، وتجعل هذه القيادة في حالة استسلامٍ أمام قراراته التي يجري تسريبُها قصداً للإعلام لتأهيل الجميع لتلقيها بهدوء؛ وهو الأسلوب الذي اتبعه نتنياهو للتخلص من غالانت، والذي يجري تنفيذه حالياً من أجل الإقالة المتوقّعة في الأيام المقبلة لرئيس "الشاباك"، رونين بار.

أمام حالة من العجز في مواجهة القيادة السياسية، ينتظر الجيش أن يأتيه الخلاص عبر محاكمة رئيس الوزراء من خلال السلطة القضائية

وهنا تنبغي الإشارة إلى أن ما يقوم به نتنياهو تجاه القادة العسكريين يبدو في الظاهر متوافقاً مع أحد مبادئ ثلاثة بني عليها الجيش الإسرائيلي لحظة تأسيسه، وينصّ على أن يكون الجيش تابعاً للسلطة السياسية، غير أن طريقة تعامل نتنياهو مع القيادة العسكرية، وتوظيف الجيش في حروبٍ، يدرك أغلب الإسرائيليين أن الجانب الأكبر منها يُخاض من أجل نتنياهو وليس إسرائيل، يخالف ما يعرّف به الجيش نفسه طوال الوقت بأنه "جيش الشعب". وعلى هذا الأساس، يجد الجيش نفسه في قلب صراع داخلي معقّد، وبين اختيارين أحلاهما مرٌّ؛ فإما انصياعٌ كامل لحكومة تستخدمه من أجل حساباتها، وإمّا انقلابٌ على سلطةٍ سياسيةٍ ليظلّ جيشاً للشعب، ولكل خيار تبعاته الخطيرة على مستقبل الكيان الصهيوني. والواضح أن حالة الضعف التي أصابت القادة السياسيين في الدولة، وأنتجت معارضة هشّة لم تشهد إسرائيل مثلها من قبل، أصابت بالقدر نفسه القيادات الحالية في جيش الاحتلال، وجعلت هذه القيادات غير قادرة على مواجهة قرارات نتنياهو، وقد تفاقم هذا الأمر بعد إقالة يوآف غالانت، ما يعني أن الجيش لم يعد أمامه سوى الخيار الأول بالاستسلام لإرادة رئيس الوزراء، الذي يقود الديمقراطية في إسرائيل إلى حالة موات، ويجعل من إسرائيل "ديمقراطية سابقة"، على حد تعبير الصحافي في "يديعوت أحرونوت"، ناحوم برنيع.

وأمام هذه الحالة من العجز في مواجهة القيادة السياسية، ينتظر الجيش أن يأتيه الخلاص عبر محاكمة رئيس الوزراء من خلال السلطة القضائية، التي استهدفتها الحكومة من يومها الأول، حين أرادت تطبيق ما عرف بالثورة القضائية، وعلى الأرجح لن يطول الوقت حتى يعاود نتنياهو فتح هذه الجبهة.

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.