Skip to main content
جاكيت بلا زرّ علوي
خطيب بدلة
(لؤي كيالي)

اشتريتُ من متجر ألماني جاكيتاً صيفياً نمرته 56، بمبلغ 89 يورو. عندما جرّبت ارتداءه وجدتُه مناسباً، شريطة أن يبقى الزرّ العلوي مفتوحاً، لأن كرشي يحول دون إغلاقه. جرّبت جاكيتاً آخر، نمرتُه 58، فكان متهدّلاً و"مبهبطاً" علي، بدوتُ فيه مضحكاً مثل الأشخاص السوريين الذين يتقلدون مناصب أكبر من إمكاناتهم، ابتداء من بشار الأسد والمسؤولين الذين يعينهم، وانتهاء بأشخاص طكعَ الزمانُ فجعلهم معارضين.

أول ما خطر ببالي، وأنا أنظر إلى الشابّة التي كانت تهتم بزبائن القسم الرجّالي، أنها لو كانت في بلادنا، وبهذا الجمال، لتزاحم عليها الخاطبون، وربما وقف أبناءُ عمّها في طريقها، فوقع، في أثناء التنافس عليها، بعضُ القتلى.. وتساءلتُ عن عدد السنوات التي تطوّرت فيها بلاد الألمان، حتى أصبح شغلُ فتاة جميلة جداً، بصفة عاملة في متجر، أمراً أكثرَ من عادي. والأحلى أن الصبية كانت ذات بديهةٍ قوية، إذ سرعان ما اكتشفت لديَّ ميلاً إلى المزاح، لأنني كنت أحكي مع شقيقي دريد بالعربي، وهو يضحك، فقالت لي، بألمانيةٍ بسيطة، مع استخدام الإشارات: حاوِل أن تُنقص حجم بطنك قليلاً، يصبحْ بإمكانك تزريرَ الجاكيت! أنا، وبكل تواضع، لا أحبّ إسداء النصائح لأحد، أو تلقّيها من أحد، إلا هذه الألمانية ذات العينين الزرقاوين، فقد انتصحتُ منها، وبدأت، في الحال، تنفيذ رحلة "الألف تنكة" باتجاه كرشٍ لا يعيق تزرير جاكيتٍ جديد.

في اليوم التالي، وبمحض المصادفة، تعرّفت على أسرة إدلبية رائعة، تسكُن في مدينة قريبة من مكان وجودي. وبما أنني أقمت في مدينة إدلب 31 سنة، فقد وجدتُ، مع أفراد تلك الأسرة، أرضيةً مشتركةً من الذكريات الطيبة.. وأحببتهم بالطبع، وأحبّوني، وعزموني إلى الغداء في اليوم التالي، عزيمة يُقال لها في حلب "بشقشقة حوييج"، وأصل هذه العبارة: أنك تعزم شخصاً إلى بيتك، وهو يتمنّع، فتشدّه من ثيابه، لتجبّره على قبول العزيمة، ومن كثرة الشدّ، والتجاذب، والتدافع، يمكن أن تنشقّ ملابسه التي يسميها الحلبيون (حوايج). وقبلت الدعوة، طبعاً.

يرى السوريون، عموماً، أن على صاحب البيت أن يهتمّ بطعام الضيف، فيضع أطيبَ ما على المائدة في صحنه. وهذا لا يكفي بالطبع، فالمفروض أن يقول له بين كل لقمة يتناولها والتالية: أي والله، شرفتم، وآنستم، ويا مرحبا، ويا حيَّ الله .. وكانت، عند أهل جبل العرب، عادة قديمة تدلّ على الكرم الزائد، أظنها تلاشت مع الزمن: يقف صاحب الدار "المعزّب" على قدميه، بينما الضيوف يأكلون، فإذا طلب منه أحدهم الجلوس يقول: لا يجوز، كرمى لواجبك.

لم أُفاجأ، عندما جلسنا إلى السفرة لتناول الغداء، بمحاولات أفراد الأسرة الإدلبية المستميتة في تزويد صحني بما لذّ وطاب من يبرق، وبطاطا مقلية، ودعابيل كبّة مقلية، وسنبوسك، وكراديش لحم، ناهيك بالسلطة والفتوش والبابا غنوج، وهذا الأخير اشتققتُ له، عندما كنت في تركيا، اسماً أضحك غراسين مطعم هاتاي سفراسي، وهو: ĞANNUG BABASI، ومعناه: والد السيد غنوج. ولم تنفع محاولاتي في اتّقاء مزيد من القطع الواردة إلى الصحن باليد، ولا حتى بالكلام، فاضطُررت أن أحكي لهم، بلغة المثقفين التي يتقنها شعراءُ فيسبوك، عن أصول الإتيكيت التي توجب على الضيف أن يُجهز على مكوّنات صحنه، فمن غير اللائق أن يترك بقايا، وأنهيت كلامي بالقول: وأنا بطبيعة الحال أقلّل من الطعام، لكي أتمكّن من تزرير الجاكيت.

سألتني ربّة المنزل عن هذا المصطلح، فحكيت لها ما جرى بيني وبين البائعة الألمانية، فضحكت، وقالت: طيّب مشيها اليوم، وتبدأ رحلة تصغير البطن اعتباراً من الغد. اقتنعتُ بكلامها بالطبع، فنحن أبناء هذه البلاد المنكوبة نشتغل على هذا المبدأ منذ مئات السنين: نُرَحّل معالجةَ مشكلاتنا إلى الغد، وفي المحصلة، لا نحلّ منها شيئاً، بل وتستجدّ لدينا مشكلاتٌ أخرى.