ثلاجة الأحياء

ثلاجة الأحياء

11 يوليو 2021

(لينا بن رجب)

+ الخط -

هو من ذلك الطراز الذي أصبح الموت بالنسبة له شأنًا عاديًّا، بعد أن أمضى سحابة عمره حارسًا لثلاجة الموتى في أحد المستشفيات، فقد كان مسؤولًا، بحكم عمله، عن استقبال الجثث حديثة الوفاة، وتصنيفها من حيث الاسم والجنس والعمر، ثم اختيار الدرج الملائم لحجمها في الثلاجة الضخمة التي تحتل نصف الحائط من "الغرفة السوداء" المخصصة للموتى، وغسلهم في الحوض المعدني الذي يتوسط الغرفة. كان يُدخل الجثث ويُخرجها كأنه يتعامل مع ملفات أرشيفٍ مكدّسة في درج، ولا يستغرقه الوقت لحظاتٍ لسحب "الملف" أو حشره في مكانه.

الأغرب من ذلك أنه ارتأى، أيضًا، أن يستثمر ثلاجة الموتى لحفظ أطعمته القابلة للتلف، فراتبه الضئيل لم يكن يتيح له اقتناء ثلاجةٍ في منزله المتواضع، فعمد إلى تخصيص درج كامل لهذه الغاية، يكدّس فيه طعامه ومشروباته في ذلك الدرج، ولا يتورّع، كلما عضّه الجوع، عن فتح الدرج، وإخراج ما تيسّر من الطعام لالتهامه.

صحيحٌ أنه كان يتحاشى إخراج الطعام في أوقات الغسل، لكن سأمه من الانتظار الطويل كان يدفعه إلى اقتحام طقوس الغسل، متصنّعًا الوقار، فيُفشي السلام بصوتٍ خافت، ثم ما يلبث أن يتجّه إلى الثلاجة، ويسحب درجًا من أدراجه الطويلة، ويتناول كيس طعامه، وسط ذهول الرجال المنهمكين بغسل الميّت.

بلا شك، هو يتفهّم سبب ذهولهم، غير أنه كان قد برمج نفسه منذ أمد بعيد على تجاوز هذا الموقف، وليس أمامه خيار غير استخدام ثلاجة الموتى لحفظ طعامه من العطب، وإلا سيكون مضطرًّا أن يلجأ إلى ابتياع طعام جاهز، وهو ما لا يستطيع تكبّد نفقاته. كان يدلف من باب الغرفة الباردة خارجًا بسرعة، كمن اقترف ذنبًا، ويتجه نحو كوخ حراسته المجاور للغرفة، ثم يقتعد كرسيًّه، فيفضّ الكيس ويفرد محتوياته على طاولةٍ خشبيّةٍ صغيرة أمامه، ويشرع بتناول وجبته كالمعتاد، كأنه في بيته تمامًا، وكأن الطعام منتزع من ثلاجة المنزل، لا من ثلاجة الموتى.

وكان يتعيّن عليه أن يكون رجلًا "عمليًّا"، فالثلاجة هي الثلاجة من حيث الأداء، صنعت لحفظ الجثث أو الطعام. أما المفاضلة فبنت أفكار البشر الذين يميلون إلى "الخصخصة" و"التفريد"، وإلى ابتكار المصفوفات و"التجنيس"، أما هو فلا تعنيه تلك التصانيف والفهارس. ما الضير، مثلًا، إن جاورت حبة طماطم رأس ميّت؟ هل ينتقص ذلك من حرمة الميت، أم يقلل من شأن الطماطم؟ هل ستموت الحبّة مثله وتصبح غير صالحة للأكل؟ لماذا لا يكون العكس هو الصواب، بمعنى أن ثلاجة الموت ستتحول إلى ثلاجة حياة؟.. عندما يتوصل إلى هذه النتيجة، يتفاقم إعجابه بقدرته على التكيّف، ويتابع التهام وجبته بحياد بالغ.

أما في الغرفة الباردة، فالمشهد مختلفٌ تمامًا بالنسبة للرجال الواجمين، الذين عادة ما يقطعون مهمّتهم بغسل الميت برهةً من الوقت، وهم يراقبون الحارس الذي يظنون أول الأمر أنه بصدد إخراج جثة جديدة، لكنه يباغتهم بإخراج الطعام، فينظرون إليه باندهاشٍ ممزوجٍ، أحيانًا، بمشاعر متضاربة: هل هم أمام رجل مغامر أم إنسان منزوع المشاعر؟

عندما اقترب موعد تقاعده حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد تلقّى في أحد الصباحات كتاب الاستغناء عن خدماته، بعدما تفاقمت الشكاوى المقدّمة بحقه من أهالي الموتى الذين شعروا أن فعله ينطوي على استخفاف بموتاهم الذين لا ينبغي أن يشاركهم شيءٌ بثلاجتهم المخصّصة لهم، فضلًا عن أن هذا الفعل "الهمجي"، حسب وصفهم، يدلّ على أن صاحبه شخصٌ غير سويّ ولا يجوز أن يعمل في المستشفيات، حصرًا، التي لا تحتمل غير أناس يتوفّرون على فيضٍ هائل من المشاعر الإنسانية التي يحتاجها المرضى في رحلة علاجهم. ومن شأن مثل هذا الفعل أن يشعرهم بأنهم سيفقدون حيّزهم الذي شغلوه في حياتهم بعد موتهم، ولربما تشاركهم فيه حبّة خيار أو طماطم.

كان قرار الإقالة حاسمًا، ولم تفلح كل محاولات الحارس "الهمجي" في ثني إدارة المستشفى عن قرارها، فلم يكن أمامه غير الانصياع لقرار الفصل، فخرج لا يحمل غير كيس طعامه الفقير.

في الخارج، داهمه شعور غريب بالبرد، على الرغم من الشمس القائظة.. كانت أطرافه تتيبّس رويدًا كأنه يدخل عالمًا قطبيًّا، أو بالأحرى كأنه يدخل ثلاجة الموتى.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.