ثلاثة جيوش وقرار

16 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 12:53 (توقيت القدس)
+ الخط -

استمع إلى المقال:

ثلاثة جيوش تنتظر دورها في مرحلة مقبلة (ليست بعيدةً) في الشرق الأوسط: العراقي والسوري اللبناني. عاد الأول من بعيد بعد حلّه إبّان الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، ثمّ مرّ بمقتلة الموصل وتمدّد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في 2014، وصولاً إلى تحوّله أداةً بيد سلطة تنفيذية قادرة على القول "لا" لفصائل الحشد الشعبي. وجديد تلك المحطّات أخيراً تحميل حكومة محمد شيّاع السوداني كتائبَ حزب الله العراقية مسؤولية أحداث 27 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، في دائرة الزراعة في بغداد، وهو أمر نادر الحدوث عملياً، أقلّه في حقبة يهيمن فيها الإطار التنسيقي على جزء مهمّ من القرار السياسي للبلاد.

الجيش الثاني، السوري، لم تعد أولى أولوياته توحيده بعد تشتّته في مرحلة الثورة السورية، بما عناه من توهان ولاءات ألويته بين إيران وروسيا، وتماهيه مع مليشيات محلية وخارجية. أهم أولوية لقيام الجيش السوري تنبثق من تطهيره من المقاتلين السوريين والأجانب المتورّطين في مجازر الساحل والسويداء باسم "الدولة السورية". لن تقوم قائمة لجيش ما لم يقم بتطهير ذاتي، وإلّا عليه إلغاء فكرة دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) معه، ونسيان فكرة تطوّع عناصر سوريين مؤمنين بقيام دولة حقيقية.

الجيش الثالث، اللبناني، الذي يتحوّل تدريجياً نقطةَ التقاء واقعية في بيروت، بعدما كانت المناداة في العقود الماضية للوثوق به مجرّد أدبيات شعرية لا فعلية، فبعد قرار الحكومة اللبنانية حصر السلاح بيد الدولة، وتكليف الجيش وضع خطّة في هذا الشأن، هناك جوٌّ من الشعور بقرب "لحظة الحقيقة". حتّى إنّه بعد انتهاء حرب لبنان (1975 ـ 1990)، أمسك النظام السوري (بقيادة حافظ الأسد) بلبنان، ما منع عملياً أيَّ دور ريادي للجيش اللبناني. واليوم؛ يعود هذا الجيش لتأدية دور وُضع جانباً منذ حرب أو ثورة 1958، حين رفض قائده اللواء فؤاد شهاب التورّط في القتال بين أنصار رئيس الجمهورية كميل شمعون وأنصار التيّار الناصري في لبنان. يقيناً القول إنّ هذا الجيش تحديداً قادر على لعب أدوار لم يلعبها أيُّ جيش عربي سابقاً، تحديداً في ما يتعلّق بالتفاعل مع المجموعات اللبنانية، على اعتبار أن التنوّع الطائفي في المؤسّسة العسكرية اللبنانية يدفع الجيش للتفكير مرّات عدّة قبل الإقدام على تلبية أيّ قرار سياسي.

يعني ذلك أن كلّ رصاصة تحصل عليها تلك الجيوش، بأموال دولة أو بموجب هبات، ستُضعف الجيوش الموازية، وستمنعها من استرداد مكانتها. ومتى تمّ ذلك، فإنّ عناوين المرحلة المقبلة في بغداد ودمشق وبيروت لن تحمل ملامح دينية أو مذهبية. ومع أن بيروت بعيدة في الأساس عن مثل هذا التوجّه، فإنّ بغداد أظهرت تمرّداً جدّياً عليه، فيما يبقى دور دمشق، ورئيسها أحمد الشرع، لصياغة مفهوم يجعل الجيش السوري أداةً لحماية الدولة، لا للسماح بتغوّل عناصر فيه بعناوين طائفية. وسط هذه الضوضاء، تتراجع أدوار الروس والأوروبيين ونفوذهم في تلك الجيوش. أصبح الأميركيون الطرف الأكثر انخراطاً في تدريب ودعم وتجهيز الجيشَين اللبناني والعراقي، فيما يُنتظر أن ينضمّ الجيش السوري إليهما بمجرّد الانتهاء من تطهير صفوفه.

يعني ذلك أن مفهوم إمساك الجيوش بالقرار الأمني في بغداد ودمشق وبيروت لم يعد مجرّد وهم أو أمنية، بل واقع سيُترجم تباعاً، وفي ذلك مصلحة تتجاوز الحاجة إلى ضمان الأمان لشعوب تلك البلدان، أو الخروج من الجلباب الإيراني، بل خطوة يُراد منها إظهار أن الحياة السياسية العشوائية في تلك الدول لم تفضِ سوى إلى فساد وحروب واختراقات إقليمية، وأن الحاجة للجيوش لصياغة القرارات السياسية لم يعد خياراً، بل ضرورة لضمان الاستقرار السياسي بموجب قرار أمني، لا العكس، كما حصل خلال انتشار فصائل ومليشيات بعناوين من قبيل "تحرير فلسطين"، فيما هي تهاجم دائرة حكومية لتثبيت نفوذ منتسبين إليها.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".