ثلاثةٌ في واحد

23 مارس 2025
+ الخط -

في 21 مارس/ آذار من كلّ عام، يحتفل معظم سكّان المعمورة باليوم العالمي للشعر، واليوم العالمي للأرض، واليوم العالمي لإلغاء الميز العنصري، رابِعُها اليومُ العالميّ للنوم. هكذا تكتمل حلقة الفرسان الثلاثة: الشعر والأرض وإلغاء الميز العنصري. ثلاثةٌ ليس لها وجود (أو تكاد)، تماماً كالغول والعنقاء والخلّ الودود، لم يفتقر إليها البشر كما افتقر إليها هذه الأيام. ثمّ يأتي النوم، مثل "دارتانيان"، الفارس الرابع في رواية ألكسندر دوما، ليتوّج الحلقة.

اليوم العالمي للنوم مناسبة كي يجتمع المختصّون، فيدبّجوا المحاضرات العصماء في التغنّي بمحاسنه، حاثّين الفقراء إليه (مثل كاتب هذه السطور)، على تسديد ديونه المتخلّدة بذمّتهم، كي لا يغفو في الشغل أو في الشارع، فيحدُث لهم ما لا تُحمد عقباه. ولعلّهم ينتبهون إلى أنّ قلّة النوم تورث الهمّ والغمّ، وتقود إلى فقدان الذاكرة والانهيار العصبي، وقد تتسبّب في السّمنة، وقد تؤدّي إلى انسداد الأوردة وتداعي القلب وارتفاع ضغط الدم.

أمراضُ دمارٍ شامل (والحقّ يقال)، لا يعرف المصابون بها هل يعودون بها إلى فجوةٍ على صعيد الوعي، تفصل بين فترتين من اليقظة، أم ينسبونها الي الإمبرياليّات العالمية أو الماكيافيليات العربية أو الفقر المزمن أو الغلاء المعيشي، إلى غير ذلك من غيلان هذا العصر، القادرة على سرقة النوم من بين جفون الأسد وأنيابه، وعلى جعل الحجارة تمرض، فما بالك بالبشر. ولعلّهم يحيلونها على موتَى "مدينة" الكاتب الفرنسيّ توماس ريفردي (1974)، الذين "نعتقد أننا ندفنهم في تيار الحياة اليومية، بين أفراحها وأحزانها العادية، وبين ملايين الأشياء الأخرى التي نفكر فيها أو ننشغل بها، إلاّ أنّ أدنى عاصفة من الأرق تعيدهم إلى الشاطئ، وسط موجة من العرق والقلق".

لكن، ما حيلة من ليست بيده حيلة؟ ما حيلة "طيور اللّيل" المنتمين إلى ثقافة تعتير النوم "مضيعة للوقت"، وشعارها بيت أحمد رامي/ عمر الخيّام "فما أطال النوم عُمراً/ ولا قصّر في الأعمار طول السهر". ثمّ ما حيلة من كانوا نياماً أصلاً إذا ماتوا انتبهوا؟ هل لذلك كلّه صلة بالتراجيكوميديا؟ أو بما تُسمّى نظريّة المؤامرة؟ أو بالمصادفة؟ والسؤال الأقسى: ما الذي جعل أهل الحلّ والعقد لا يجدون يوماً من أيام ربّ العالمين، للاحتفال بالشعر والأرض وإلغاء الميز العنصري، غير اليوم الذي يحتفلون فيه بالنوم؟

ليس من شكّ في أنّ الشعر لن يتخلّف عن الوقوف، كعادته طبعاً، مقاوماً، محاولاً إيقاظ العقل والوجدان. وتلك هي المشكلة. لم يعد الشعر شعبيّاً هذه الأيّام. وعليه أن يتصنّع الضحك! وأن يرقص! وأن يرفّه عن الجمهور! وليس بعيداً أن يُسَفَّهَ إذا هو أصرّ على شيء من الجديّة، أو حاول تفكيك اللعبة وإسقاط الأقنعة. وقد يُنعت بترويج الإحباط وجَلْد الذات.

أمّا الأرض، فإنّها موضوعٌ لا يُدخِلُ المرح، ولا يُسنِد معنويّات الشعب العظيم. وإذا كان لا بدّ من موضوعٍ كهذا، فليقتصر على غراسة الأشجار، وتنظيف الشوارع، والحثّ على التوقّف عن استخدام البلاستيك. ثمّ ما الفائدة من الحديث عن التربة والقمامة. دعك من هذا كلّه. ودعك خاصّة من تيمة الأرض كنايةً عن الحلم أو أصالة عن الوطن، فهذا موضوع ثقيل الروح، يكرهه التلفزيون العربي والعالمي، لأنّه ليس "تيليجينيك".

في المقابل، تبدو مواجهة الميز العنصري ضرباً من القياس على المستحيل. خاصّة حين يدعو إليها أكبر ممارسي التمييز في العالم: الأغنياء ضدّ الفقراء. الأقوياء ضدّ الضعفاء. الذكور ضدّ الإناث. البيض ضدّ الألوان الأخرى كلّها، وبحماسةٍ تجعل مجرّد ذكر الموضوع قريباً من الفكاهة، لولا أنّها فكاهة سوداء لا تُضحك إلاّ القتلةَ المتسلسلين، في الصالونات المخصّصة للنقاش حول حقوق الإنسان. لنتحدّث عن هذا الموضوع في الغد، يقول أحدهم، بينما يتثاءب، حتى تكاد أنيابُه تسقط من بين فكّيه.

مرّةً في كل عامٍ، إذَاً، يجتمع الشعر والأرض ومواجهة الميز والنوم. وكأن الثلاثة الأوائل في واحد، هو رابعها: النوم. أي نعم. النوم الذي يطغى على العيون والعقول والقلوب والضمائر، ويسحق الجميع بدعوى منحهم الراحة والاسترخاء، ثمّ يستيقظون فإذا هم قد فوّتوا كلّ شيء: حلم الشعر، وحرية الأرض، وشعلة الكرامة. وفي نهاية المطاف، يتخبّط الشعر بين العظَمةِ والغموض. تنظر الأرض بحزنٍ إلى ضحاياها في الركام. يتبادل ضحايا التمييز الأمل والإحباط. بينما يتمدّد النوم على الجميع مثل بطانيّة عملاقة.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.