تونس والعودة إلى المُربّع الدُّستوري الأول

تونس والعودة إلى المُربّع الدُّستوري الأول

05 مايو 2021

في مظاهرة تونسيين في العاصمة ضد تطبيع الإمارات والبحرين مع إسرائيل (15/9/2020/الأناضول)

+ الخط -

شكّلت تونس، في تاريخها الحديث، على الأقلّ، بلدا نُخبويا. هذا البلد الصغير الذي يقع في شمال أفريقيا، هو أشبه بلبنان من نواحٍ عدة. ولعل ما جعل تونس بلدا نخبويا، أنها ظلت تضم نُخبا ثقافية تنويرية، ساهمت في إشعاعها مبادئ وقيم علمانية ملحوظة. حتى في ظل حكم زين العابدين بن علي الاستبدادي، لم تفقد تونس ذلك السحر المُميَّز الذي أهّل نُخبها الثقافية والسياسية لتَصُدُّر مواقع ريادية، في مؤسسات مغاربية عديدة، عربية ودولية. وإن افتقد التونسيون الديمقراطية، بالمعنى الأصيل للمفهوم، منذ الاستقلال عن فرنسا، إلا أن حيويتهم النابعة من كونهم شعبا مُثقّفا، سرعان ما كانت تنطوي على فارق كبير، بالمقارنة مع معظم الشعوب العربية. احتكمت تونس ما قبل الثورة إلى دستور 1959. وفي خلال ذلك، شهدت حُكْم رئيسين مُعمِّرين: الحبيب بورقيبة وبن علي. وعلى الرغم من الاستظلال بنصوص الدستور الواحد، فإن فترة حكم بورقيبة كانت الأكثر جاذبية، بالنظر إلى نضاليته ضد الاستعمار الفرنسي، وكاريزمية شخصيته "العلمانية". أما فترة حكم بن علي، الموروثة عن العهد البورقيبي، بصفة عامة، فسرعان ما انحدرت درجاتٍ، لتصير الدولة خلالها رديفة لدولة القمع البوليسي.

حين اشتعلت ثورة 2011 في تونس، مُتقدِّمة باقي ما باتت تسمى ثورات الربيع العربي، لم ينتج ذلك عن فراغ، فاشتداد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، في ظل نظام رئاسي بوليسي، كان الداعي الموضوعي لتحرّك شعب "مثقف"، واع بحتمية قيادة حركة التحرّر من الاستبداد. وإذ نجحت الثورة فيها، مع ما تلاها من توافقاتٍ سياسية ودستورية صعبة، شهدت بعض دول المنطقة العربية أحداثا عنيفة، وصلت إلى حد الاحتراب الأهلي الشامل. ولذلك، كلما نُظر إلى الخريطة الجيوبوليتيكية للمنطقة العربية، من منطلق ما أصابها من انقسام ووهن وضياع (لصالح الكيان الصهيوني وتركيا وإيران)، كان النموذج "الثوري" الإيجابي يأتي من تونس "الخضراء".

واليوم، ماذا يحصل في بلاد الزيتونة، جرّاء ما يفد علينا من أخبار؟ بالنظر إلى طبيعة النقاش وحِدّته، اللتين بلغتا حدود التلاسن بالاتهام والتخوين، ليس من شأن المحلل السياسي إلا توقع تفاقم الأزمة، إن لم يتمّ تدارك الوضع مُبكرا. ولعل ما يجعل لهذا التوقع نسبةً من الأرجحية، أن النقاش/ الصراع بدأ يتخذ أطرافه الكبرى من الثلاث: رئاسات الدولة والحكومة والبرلمان. وزيادة على ذلك، يبدو الصراع آخذا في الارتداد إلى البداية الأولى للخلافات التي دارت داخل "المجلس التأسيسي" وخارجه، بشأن إقرار مشروع دستور 2014.

تعبيرا عن صعوبة تنزيل التشريعات والقوانين، غالبا ما يتم اللجوء إلى عبارة أن الشيطان يكمن في التفاصيل. هل يعود الأمر، في دستور تونس ما بعد الثورة، إلى "ثغرات" في بعض نصوصه؟ هل يعود إلى تأويل مُغرض من هذا الطرف أو ذاك؟ الخلاف بين الرئاسيات الثلاث حول صلاحيات الرئيس في قيادة القوات العسكرية والأمنية على حد سواء، يرجع إلى السببين المذكورين معاً. وإن جاء الحديث عن الرئاسيات الثلاث، إلا أن الأمر لا يعدو كونه خلافا بين طرفين رئيسين: رئاسة الدولة، مُمثلة في قيس سعيّد، من جهة، ورئيسي الحكومة والبرلمان، مُمثليْن في هشام المشيشي وراشد الغنوشي، من جهة ثانية.

استمرار الوضع على ما هو عليه، بما يناهز أربعة أشهر أو أكثر، جعل الأداء الحكومي في حالةٍ ملموسةٍ من الضعف والارتباك

الخلاف حول دستورية الجمع بين قيادة القوات العسكرية والأمنية من عدمها ليس الوحيد خلال ولاية سعيّد الرئاسية، فقد سبق أن رفض رئيس الدولة أداء الوزراء الجدد، في حكومة المشيشي المُعدّلة، اليمين الدستورية أمامه، إضافة إلى تعطيل قانون المحكمة الدستورية. وحتى إن كان للرفض والتعطيل ما قد يبرّرهما، إلا أن استمرار الوضع على ما هو عليه، بما يناهز أربعة أشهر أو أكثر، جعل الأداء الحكومي في حالةٍ ملموسةٍ من الضعف والارتباك. ولعل ما يطبع الخلاف الدستوري، الآخذ في الازدياد والحدّة، أنه يأتي في سياق اقتصادي واجتماعي صعب، فاقَمَه تفشّي جائحة كورونا.

يمكن القول إن بنود الدستور، المصادق عليها في 26 يناير/ كانون الثاني 2014، باتت تنفجر في وجه التونسيين اليوم. ويظهر أن التوافقات الدستورية، الحاصلة، آنذاك، بين الأفرقاء السياسيين، بتأثير من انزلاق بعض الثورات العربية إلى العنف، زيادة على الاغتيالات التي طاولت بعض القيادات السياسية التونسية، ساهمت في المصادقة على الدستور الجديد. والسؤال، الآن، هو: هل كان دستور ما بعد الثورة مثاليا؟ بالتأكيد، لم يكن مثاليا، ولكنه كان "مُتقدِّما"، بالمقارنة مع دستور 1959. التقدّم في الدستور الأخير، على الأقل، حاصلٌ في تقاسم السلطة بين رئاستي الدولة والحكومة، فبدل أن تبقى الحكومة مجرد جهاز بأيدي الرئيس، تساعده على تدبير شؤون الحكم، صارت محورا رئيسا للسلطة التنفيذية. وفي هذا السياق، باتت اختصاصات الرئيس، مثل التعيين في المناصب العليا، تتمّ عبر الاستشارة مع رئيس الحكومة (أو الاقتراح منه).

هل تُقدِّم تونس الدرس الجديد، مرة أخرى، في كيفية تدبير صعوبات الانتقال الديمقراطي؟

لقد سعى دستور 2014 إلى تحقيق التوازن بين الرئاستين. وإذا كان هذا السعي الملموس أهم إنجازات الثورة، إلا أن الاختلاف في تأويل الفصل 77، اليوم، في إطار موضوع تقاسم السلطة، يعيد التونسيين إلى المُربّع الأول، أي إلى ما قبل ثورة 2011. والملاحظ أن الفريقين، معاً، يتهمان بعضهما بعضا بفساد التأويل. ففي التاسع عشر من رمضان الجاري، وخلال وجبة إفطار مع ضباط الجيش والمسؤولين الأمنيين، في جبل الشعانبي بولاية القصرين، بعث الرئيس سعيّد رسائل إلى "مُحرِّفي النصوص الدستورية" الذين يبدو خطرهم أعظم على البلاد، بسعيهم إلى "تقسيم الدولة ومحاولة ضربها من الداخل". أما رئيس الحكومة المشيشي، فقد وصف خطاب الرئيس ذي الصلة بكونه "خارج السياق، وليس هناك موجب للقراءات الفردية والشاذّة للنص الدستوري". وأكثر من ردّ المشيشي الذي كان مُتّسما بقدر من الدبلوماسية، جاء موقف القيادي في حركة النهضة، رفيق عبد السلام، قويا، مُتَّهما الرئيس بأنه "يريد أن يجمع السلطات المدنية والعسكرية والدنيوية والدينية بين يديه، استنادا إلى تأويلٍ فاسدٍ ومضللٍ للدستور لينصِّب نفسه القديس الأكبر".

مُراوحة الدستور التونسي، بين النظامين الرئاسي والبرلماني، كانت من أسباب هذا الخلاف الدستوري. وفي سياق ذلك، هل يمكن الموافقة على ادِّعاء ما يراه بعضهم "انقلابا ناعما" يقوده الرئيس؟ ثم لماذا يسعى الرئيس نفسه إلى تضخيم موقعه في السلطة، على الرغم من معرفته أن الثورة التونسية قامت على دكّ أسس ما كان قبلها من استبداد؟ ثم ألا يمكن القول إن الخلاف إيديولوجي في أساسه: بين رئاسة الدولة، التي أضحت تصطف معها القوى والتيارات المُعارضة للإسلام السياسي، وحركة النهضة ذات الخلفية الإسلامية؟

إن لم يحتكم الفرقاء إلى خطة طريق، من مخارجها سدّ الفجوات الدستورية، والتمهيد لانتخابات مُبكِّرة، الوضع مُرشّح للتدهور

ما يحدث لحركة النهضة من تشكيك في نواياها وأهدافها، العائدة إلى حركيّتها الإسلامية، هو ما يحدث عينه للأحزاب الإسلامية في باقي الدول العربية (منها العدالة والتنمية في المغرب). وحتى إن مالت لغة الحزب إلى البراغماتية السياسية، بالتنازل في مواضيع مثل العقيدة والتجديف والمرأة، هناك أسباب تحول دون "التطبيع" الكامل للإسلاميين، في تونس وفي غيرها من البلدان العربية. ولذلك، كلما تفجّر خلافٌ أو نزاعٌ وُجد من يرفع صوت الاستئصال عاليا. وليس من الغريب أن تتم العودة، في هذا السياق المشحون، إلى خطاب ما قبل المصادقة على الدستور، بالتركيز على "نوايا" الإسلاميين البعيدة، وأجهزتهم التنظيمية المُحكَمة التي توازي أجهزة الدولة انضباطا، بل وتَفوقُها أحيانا.

هل قدر تونس أن تتقاطب فيها لغتان: لغة الرئاسة التي يجد فيها فريقٌ نزوعا قويا إلى الاستبداد، ولغة "الجماعة" التي يرى فيها فريق آخر "الخطر الأكبر على البلاد ومصالحها الاستراتيجية، والمسؤولة عما حلّ بتونس"، كما جاء على لسان رئيس حزب التيار الشعبي، زهير الحمدي. والأخطر من هذا وذاك، الوضع التونسي المتّسم بالجمود، في ظرفيةٍ اقتصاديةٍ واجتماعية وصحية طاحنة. وإن لم يحتكم جميع الأفرقاء إلى خطة طريق، يكون من مخارجها سدّ الفجوات الدستورية، والتمهيد لإجراء انتخابات عامة مُبكِّرة، فإن الوضع العام مُرشّح للتدهور، وخصوصا في ظل التنازع المستمر حول السلطة على الأجهزة الأمنية. هل تُقدِّم تونس الدرس الجديد، مرة أخرى، في كيفية تدبير صعوبات الانتقال الديمقراطي؟ هل تستطيع استعادة المعنى الإيجابي لما سُمِّي، في حينه، "الربيع العربي"، في ظل ما حيق بمعظم الثورات العربية من انتكاس وفشل؟