تونس وأخواتها في مفترق الأبوي والتعدّدي

تونس وأخواتها في مفترق الأبوي والتعدّدي

14 اغسطس 2021
+ الخط -

بعد مساجلات وحملات إعلامية تستثمر رصيد الإلحاح الإعلامي على انقسام كل مجتمعات "الربيع العربي" بين الإسلاميين وخصومهم، قفز اسم البروفيسور نوح فيلدمان إلى واجهة المشهد الإعلامي، موصوفًا بأكثر الأوصاف قسوة، مسؤولا عن الأزمة في تونس. فيلدمان الخبير الدستوري الأميركي المرموق، أستاذ هارفارد، شارك في وضع دساتير أفغانستان والعراق، بعد إطاحة نظاميهما بالقوة العسكرية، ومنهما استمرّت مسيرته بعد ثورتي تونس ومصر.
والحديث الذي تتسع دائرة انتشاره أخيرا أن تونس لن تتقدّم إلى الأمام في أزمتها السياسية الحالية إلا بدستور "رئاسي"، يقلص صلاحيات البرلمان، ويمنح الرئيس سلطات تنفيذية أوسع، خصمًا من الاستقلالية التي منحها الدستور الحالي لرئيس الوزراء. وقد يكون لهذا الخطاب وجاهة من الناحية النظرية، فالانقسام في الأوساط الأكاديمية بشأن الخيار الدستوري بين مشايعي كل من النظامين، الرئاسي والبرلماني، يظلّ حقيقةً لا ينكرها أحد. والغائب هنا أن ما بعد الثورات يكون فترة تحوّل يواجه فيها أي نظام "تعدّدي" وليد مخاطر حقيقية، من لعل أهمها تجذُّر الثقافة الأبوية في شرائح غير قليلة في المجتمع، ومقاومة البيروقراطية الحكومية كل محاولة لتقنين نفوذها، فضلًا عن مساعي قوى النظام الذي تطيحه الثورة لاستعادة السلطة. وبالتالي، فإن الاستناد إلى ما يبدو أنه "وجاهة" الأسانيد النظرية تنظير في الفراغ لا يراعي السياق ولا الجدوى.

مع التنكّر للخيار الديمقراطي، لا يكاد يوجد بديل لإعادة تأسيس النظام الأبوي سوى تسييس المؤسستين، العسكرية والأمنية

والطبيعة التعدّدية التي اتسمت بها الدساتير المشار إليها، في تفاعلها مع الواقع الثقافي والمجتمعي في البلاد التي وضعت لها، كرّست الاتقسام في الممارسة العملية. وقد بدا الانقسام في العراق مذهبيًا: شيعيًا سنيًا، وبدا في مصر وتونس أيديولوجيًا: إسلاميًا علمانيًا، وهو في الحقيقة صراع: "الأبوية" و"التعدّدية"، وأنصار الأبوية فيه يستثمرون الخوف العميق لدى شرائح واسعة من المجتمعات العربية من المجهول والفوضى، وتحوّل الانقسام إلى صراع أهلي.
ونوح فيلدمان الذي كان معروفًا سلفًا أنه يمثّل، إلى حد كبير، التمايز بين الرؤيتين، الإنغلوسكسونية والفرنكفونية، كانت له كتاباتٌ عديدةٌ بشأن الموقف من العلاقة بين الدين والشأن العام تثير حفيظة قوى عديدة داخل البلاد وخارجها، اختارت التحالف مع "الثورة المضادّة" لتحقيق هدف إعاقة التغيير، بدعوى أنه يفح الباب لوجود شرعي للإسلاميين. وسواء كان "الإقصاء" مجرّد تكئة أم هدفا رئيسا بالفعل، فإن التنكّر للخيار الديمقراطي كان، في المحصلة، هدفًا مشتركًا لهما. ومع التنكّر للخيار الديمقراطي، لا يكاد يوجد بديل لإعادة تأسيس النظام الأبوي سوى تسييس المؤسستين، العسكرية والأمنية، بأمل أن تصبحا عمود الخيمة في نظامٍ لا هو رئاسي ولا برلماني، والسجال الذي يبدأ انحيازًا إلى النظام الرئاسي سرعان ما يتحوّل إلى حكم الفرد.

النظم المشرقية لا تشعر بالاسترخاء الفعلي إلا بعد شنق "آخر إسلامي بأمعاء آخر ليبرالي"

ومغازلة غرائز المحكومين بوهم الحاجة إلى سلطة قوية تحمي وترعى سرعان ما ترتجّ على مجتمع السياسة كله، دونما تمييز على أساس الانحيازات، وبعد أن تستردّ "السلطة الأبوية" أنفاسها، تشرع في القضاء على "منابع" التعدّدية في الفضاء العام كله، وهنا تصبح البنية الهرمية المغلقة المتضامنة بصلابة، ضد كل من هو خارجها، شكلًا من أشكال "الجدار العازل" بين الناس وأي شكل من التعدّدية. وفي هذا السياق، تشهد المنطقة العربية ظاهرة غير مسبوقة تتمثل في انتقال أنصار السلطة الأبوية، من الإشادة بالديمقراطية وادّعاء أنها قد تكون ممكنة في المستقبل القريب أو البعيد، إلى الهجوم الصريح عليها بوصفها أقل كفاءةً من النظم الاستبدادية، حيث المستقبل هو للاستبداد.
والقوى السياسية والثقافية التي تنشد الآن أناشيد التنديد بنوح فيلدمان (وبخاصة بالتركيز على يهوديته) سوف تكتشف، بعد فوات الأوان، أنها روّجت مقولات من يرطنون برطانة الفقهاء الدستوريين لتسهيل عملية دفن التعدّدية، وأن النخبة المدنية لا مكان لها في النظام الأبوي، فالنظم المشرقية لا تشعر بالاسترخاء الفعلي إلا بعد شنق "آخر إسلامي بأمعاء آخر ليبرالي"!