تونس على الحافّة... اقتصاد هشّ في قبضة تضخّم وعزلة

23 مايو 2025
+ الخط -

رغم تماسك بعض المؤشّرات الظرفية، تبدو تونس اليوم في مواجهة مع واقع اقتصادي واجتماعي لا يحتمل مزيداً من التأجيل أو التعتيم. خلف واجهة من الصمود الظاهري، تُخفي البيانات الاقتصادية الرسمية صورةً قاتمةً لاقتصاد يعاني من هشاشة بنيوية، وانكماش قدرة الدولة على التدخّل، وتدهور ثقة الداخل والخارج في أفق الإصلاح. تشير أحدث التقارير الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء والبنك المركزي ووزارة التجارة إلى تطوّرات مقلقة في الأداء الكلّي للاقتصاد التونسي خلال الأشهر الأولى من سنة 2025. وبينما تتجه الحكومة إلى تقديم هذه المؤشّرات بوصفها دليلَ تعافٍ تدريجي، فإن التمحيص في المعطيات يفضي إلى قراءة مختلفة، أكثر حذراً، وأشد سوداويةً.

سجّل الناتج المحلّي الإجمالي في الثلاثي الأول من سنة 2025 نمواً سنوياً بـ1.6%، مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية. يبدو هذا المعدّل موجباً، غير أنه يمثّل تراجعاً عن الثلاثي السابق الذي بلغ فيه النمو 2.4%. ما يلفت الانتباه أكثر من النسبة العامّة هو طبيعة المساهمات القطاعية، إذ كان النمو مدفوعاً بارتفاع في القيمة المضافة للقطاع الفلاحي بنسبة 7%، بينما ظلّ القطاع الصناعي في حالة ركود، وشهدت الصناعات الميكانيكية والكهربائية تراجعاً حادّاً بنسبة 6.5%. يكشف هذا التوزيع غير المتوازن للنمو عن خلل هيكلي عميق، فالفلاحة (رغم أهميتها) تبقى قطاعاً موسمياً غير قابل للتوقّع، في حين تعاني القطاعات الصناعية والخدمات الحديثة، التي من المفترض أن تُشكل قاطرة للتنمية، انكماشاً ونقصاً في الاستثمار وضعفاً في الإنتاجية.

يبدو الاقتصاد التونسي اليوم فاقداً أيّ محرك قوي للنمو المستدام، فبعد عقد من الإصلاحات المتعثّرة وثلاث سنوات من التقشّف المالي وتراجع الاستثمار العمومي، باتت قدرة الدولة على إنعاش الدورة الاقتصادية محدودةً، بل مشروطةً بتوافر تمويل خارجي غير متاح في الوقت الراهن. يواصل التضخّم إلقاء ظلاله في المشهد الاقتصادي. في إبريل/ نيسان 2025، بلغ معدّل التضخّم العام 5.6% مسجّلاً تراجعاً طفيفاً عن مارس/ آذار (5.9%). لكنّ هذا الانخفاض لم يُترجم إلى تحسّن حقيقي في مستوى معيشة المواطنين، إذ تواصل ارتفاع الأسعار خصوصاً في المواد الغذائية الأساسية بوتيرة أسرع من الأجور. قد بلغت الزيادة في أسعار الأغذية 7.3% على أساس سنوي وسط ارتفاع حادّ في أسعار اللحوم والخضر والفواكه. كما شهدت أسعار الخدمات المرتبطة بالسياحة والمطاعم والفنادق قفزةً تفوق 11%، ما يعكس ضغطاً متزايداً على الاستهلاك الداخلي، لا سيّما لدى الطبقة المتوسّطة التي بدأت تتآكل لصالح ثنائية الأغنياء والفقراء.

تفيد الأرقام في تونس بأن جزءاً كبيراً من التشغيل في قطاعات غير منظّمة، أو هشّة، يزيد هشاشة الطبقة الشغّيلة ويفاقم الفوارق الاجتماعية

لم يعد التضخّم في تونس مجرّد ظاهرة ظرفية ناتجة عن اضطرابات في العرض أو تغيرات موسمية، بل أصبح بنيوياً يرتبط بعوامل متعدّدة، منها ضعف الإنتاج المحلّي وتزايد الاعتماد على الواردات وغياب رقابة فعّالة على مسالك التوزيع، فضلاً عن استمرار الدولة في اعتماد سياسات جبائية توسعية من دون مقابل إنتاجي، ما يغذّي الكتلة النقدية من دون توازن في العرض. وتُظهر الأرقام الرسمية تحسّناً طفيفاً في نسبة البطالة التي تراجعت إلى 15.7% في الثلاثي الأول من السنة. كما ارتفع عدد المشتغلين بنحو 57 ألف شخص مقارنة بالثلاثي السابق. لكن، مرّة أخرى، تخفي هذه المؤشّرات السطحية أزمةً أعمق بكثير.

تجاوزت البطالة في صفوف الشباب 37.7%، وهي من أعلى النسب في المنطقة. أمّا في صفوف خريجي الجامعات، فتبلغ البطالة 23.5%. تعكس هذه الأرقام خللاً في العلاقة بين النظام التعليمي وسوق الشغل، كما تكشف عجز الدولة عن إيجاد وظائف ذات قيمة مضافة، خصوصاً في القطاعات التكنولوجية والإبداعية. وتفيد الأرقام بأن جزءاً كبيراً من التشغيل الجديد يحدث في قطاعات غير منظّمة أو هشّة، مثل العمل الموسمي أو الخدمات غير الرسمية، ما يزيد من هشاشة الطبقة الشغّيلة ويفاقم الفوارق الاجتماعية.

من جهة أخرى، لا يبعث أداء القطاع الخارجي على التفاؤل. فقد بلغت قيمة الصادرات خلال الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2025 حوالي 20.7 مليار دينار، بتراجع قدره 2.4% مقارنةً بالفترة نفسها من السنة الماضية. في المقابل، ارتفعت الواردات بنسبة 7.8% لتصل إلى 28 مليار دينار، ما أدّى إلى تفاقم العجز التجاري إلى 7.29 مليارات دينار، مقابل 4.5 مليارات دينار في الفترة نفسها من 2024.

يخفي الصمود الظاهري أزمة شرعية اقتصادية تتطلّب مراجعةً جذريةً لمقاربة الحكم والسياسات العمومية

لهذا التدهور أسباب متعدّدة، منها التراجع الحادّ في صادرات قطاع الطاقة بنسبة 33% والانخفاض اللافت في صادرات الصناعات الغذائية بنسبة 19.2%. في المقابل، تستمرّ واردات المواد الاستهلاكية ومواد التجهيز في الارتفاع، ما يعكس اختلالاً واضحاً بين الإنتاج الداخلي والاستهلاك، ويطرح تساؤلاتٍ عن فاعلية السياسات الصناعية والتجارية المتبعة. ويبقى الأمر الأخطر هو تراجع نسبة تغطية الواردات بالصادرات إلى 74% فقط، بعد أن كانت تتجاوز 80% قبل عام، ما يعني أن تونس باتت تُموّل جزءاً متزايداً من حاجاتها الاستهلاكية والدولارية (؟) عبر الاستدانة أو اللجوء إلى احتياطي العملة الصعبة، في ظلّ غياب موارد بديلة مثل السياحة أو الاستثمار الأجنبي.

وتتفاقم هذه الاختلالات الاقتصادية في ظل انسداد سياسي شامل، فالدولة التونسية تجد نفسها اليوم معزولةً على المستوى الدولي، بعد تعثّر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وتعليق مانحين مساعداتهم في انتظار رؤية إصلاحية واضحة. في الداخل، تغيب الرؤية الاقتصادية، ويُحتكَر القرار العمومي في مناخ من انعدام الثقة بين الدولة والقطاع الخاصّ والمجتمع المدني. في غياب تمويل خارجي مستقرّ، تعتمد الدولة بشكل متزايد على التمويل المحلّي، سواء من البنوك العمومية أو عبر الترفيع في الضغط الجبائي. هذه المقاربة، وإن كانت تخفّف من حدّة الأزمة على المدى القصير، فإنها تدفع نحو تآكل السيولة البنكية، وتعميق أزمة الاستثمار، وتعطيل الدورة الاقتصادية بأكملها.

يتواصل، في الأثناء، نزيف الكفاءات والعقول، فقد غادر البلاد خلال السنة الماضية أكثر من مائة ألف تونسي، من بينهم أطبّاء ومهندسون وأصحاب شهادات عليا. وتُظهِر الدراسات أن هذا النزيف لا يعود إلى غياب الفرص فقط، بل أيضاً إلى فقدان الأمل في أيّ تغيير حقيقي في الأفق المنظور.

إلى متى يستطيع الاقتصاد التونسي أن يصمد؟... لا يرتبط الجواب بالأرقام فقط، بل بإرادة الإصلاح والقدرة على التغيير

ليست الصورة التي ترسمها هذه المؤشّرات صورةَ انهيار فجائي، بل تفكّك بطيء، تصعب ملاحظته، لكنّه يمسّ أوجه الحياة الاقتصادية كلّها. يمكن القول إن الاقتصاد التونسي "يتنفّس على الهامش" مدعوماً ببعض موارد البقاء مثل التحويلات المالية من التونسيين في الخارج، والاقتصاد غير المنظّم، واستمرار الدولة في دفع الأجور، لكنّها موارد غير قابلة للاستدامة. ويخفي الصمود الظاهري أزمة شرعية اقتصادية تتطلّب مراجعةً جذريةً لمقاربة الحكم والسياسات العمومية، فالمشكل لم يعد تقنياً فقط، بل هو سياسي في جوهره: غياب التشاركية، وغموض التوجّهات، وتآكل الثقة... كلّها عوامل تمنع أيّ إصلاح حقيقي، وتُضعف قدرة الدولة على التعبئة والإنجاز.

وعلى المدى القصير، يمكن لتونس أن تواصل استهلاك ما تبقّى من هوامش المناورة، سواء عبر مزيد من التمويل المحلّي أو عبر إعادة ترتيب أولويات النفقات. وعلى المدى المتوسّط، سيكون من المستحيل استمرار هذه الوضعية من دون تكلفة اجتماعية باهظة. لذلك، يتطلّب الخروج من الأزمة أكثر من مجرّد توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي. المطلوب هو خطّة إنقاذ وطنية تُعيد الاعتبار للإنتاج والاستثمار والعمل، وتضع أسساً لحوار سياسي واقتصادي شامل يعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويعيد لتونس موقعها في الخريطة الاقتصادية الإقليمية والدولية.

في الأثناء، يظل السؤال مفتوحاً: إلى متى يستطيع هذا الاقتصاد أن يصمد؟... لا يرتبط الجواب بالأرقام فقط، بل بإرادة الإصلاح والقدرة على التغيير.

أنور معروف
أنور معروف
وزير تونسي سابق شغل وزارة الاقتصاد الرقمي.