تونس: تجربة ديمقراطية على حافّة الانهيار

تونس: تجربة ديمقراطية على حافّة الانهيار

05 مايو 2022
+ الخط -

مرّ أكثر من عشر سنوات على الثورة التونسية، إلّا أنّ ذلك لم يحل دون حدوث انتكاسة في تجربتها الديمقراطية، صارت تهدّد كلّ المكتسبات التي تحققت، وتُنذر بعودة منظومةٍ استبداديةٍ أساسها حكم الفرد، وأعوانها تنسيقيات "أنصار" رئيس الجمهورية.

ما لم يُنجز اقتصادياً واجتماعياً تسبّب في زعزعة أركان البناء السياسي الوطني، وما تمثله من مؤسسات وهيئات مستقلة وأحزاب ومجتمع مدني... إلخ، فكانت هذه النقيصة مدخلاً للتلاعب بعقول جزء مهم من الشعب ومشاعره، فصُوّر لهم الانقلاب على الدستور إنقاذاً للبلاد، وتجميد برلمان منتخب مواجهةً لخطر داهم، وسجن سياسيين محاربة للفساد، واستحواذ رئيس على كلّ السلطات محافظة على سيادة الدولة. حتى إذا تبين لهم لاحقاً، غير ذلك، كان نظام الفرد قد استحكم واستغلظ، ولم ينلهم منه سوى رفع الضرائب وشحّ المواد الاستهلاكية وارتفاع أسعارها.

وقد تتالت قرارات الرئيس قيس سعيّد منذ 25 يوليو/ تموز الماضي، حين أقرّ جملة من التدابير الاستثنائية، بزعمه تفعيل الفصل 80 من الدستور، لتجميد عمل مجلس نواب الشعب وحل الحكومة. وبسبب الجدل الدستوري والقانوني الواسع بشأن تأويله الفصل 80 من الدستور وكيفية استعماله، مضى الرئيس قيس سعيّد مسرعاً إلى حلّ الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين، درءاً لكلّ إمكانية طعنٍ في قراراته ومراسيمه، لينصّب نفسه رئيساً ومشرّعاً ومراقباً.

مواقف الإتحاد العام التونسي للشغل تؤكّد عجز منظومة الانقلاب عن تلبية المطالب الاجتماعية للمواطنين

قرارات بالإقامة الجبرية في السياسيين والنواب، منع من السفر، محاكمات عسكرية لمدنيين، سجن إعلاميين وصحافيين، التضييق على الاحتجاجات وتعنيف للمتظاهرين انتهى بوفاة مريبة للناشط رضا بوزيان في أثناء مشاركته في مسيرات إحياء الذكرى الحادية عشرة للثورة التونسية. وليُحكم سعيّد قبضته على كلّ السلطات، أصدر مرسوماً لتعديل القانون الأساسي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات واستبدال تركيبتها بتعيين سبعة أعضاء جدد. وتتكون الهيئة الجديدة وفقاً للمرسوم من سبعة أعضاء، بينهم ثلاثة من هيئات الانتخابات السابقة يختارهم الرئيس نفسه وثلاثة قضاة تقترحهم مجالس القضاء العدلي والإداري والمالي، إضافة إلى مهندس تكنولوجيا يقترحه المركز الوطني للإعلامية (التكنولوجيات) مع العلم أنّ المجلس الأعلى للقضاء الذي يضم مجلس القضاء العدلي والمالي والإداري استبدله الرئيس قبل فترة بشكل فردي، في خطوة تسببت في احتجاجات من جمعية القضاة وجمعية القضاة الشبان، رفضاً لتطويع السلطة التنفيذية القضاء والمسّ من استقلاليته.

يحاول قيس سعيّد من خلال مراسيمه الرئاسية وخطاباته المتكررة بالمعاني والمصطلحات نفسها، خصوصاً في ما يتعلق بتصديه للفاسدين، حسب زعمه، ورفض الحوار مع العملاء والخونة، أن يظهر نفسه في شخصية الزعيم القوي والمبدئي الذي لا يتراجع عن خياراته، مهما كانت المآلات، إلى أن وصل به الأمر إلى التهكّم على مؤسّسات التصنيف الائتماني العالمية، وانتقاد مواقف دولٍ عديدة عبّرت عن قلقها من الوضع في تونس، ودعوتها إلى الحوار وعودة الحياة الديمقراطية، معتبراً ذلك تدخلاً في شؤوننا الوطنية ومسًّا من السيادة الوطنية. وإن أتى هذا الأسلوب أكله نسبيا في البداية، إلا أنه، وبعد ثبوت فشل سياساته، خصوصا على المستويين، الاقتصادي والمالي، وتعمق عزلة تونس خارجيا، بما تعبّر عنه بيانات التنديد والشجب الدولية لخيارات قيس سعيّد الأحادية، وتعطّل المفاوضات المالية مع صندوق النقد الدولي، فإن حالة القلق والرفض الشعبي في تصاعد. ويتجلى ذلك أيضا في تقلص دائرة مساندي الرئيس، خصوصا من الأحزاب والشخصيات السياسية والأكاديمية والقانونية، وتعبير بعضهم عن مخاوفهم من سلوكه، وتأكيدهم إهدار قيس سعيّد فرصة إعادة التأسيس أو البناء كما يسمونه أو انتقادهم بعض قراراته.

يتهدّد تونس خطران، الاستبداد والإفلاس، وكلاهما إعلان نهاية للتجربة الديمقراطية

ولعل مواقف الإتحاد العام التونسي للشغل المعلنة أخيرا تؤكّد أيضا عجز منظومة الانقلاب عن تلبية المطالب الاجتماعية للمواطنين، فالاتحاد الذي بارك إجراءات 25 يوليو، واعتبرها فرصة للإصلاح، وصمت أمام تجاوزات وانتهاكات سياسية وحقوقية عديدة، أكّد، في بيانه أخيراً بمناسبة عيد العمال، أنّه لن يبقى مكتوف الأيدي، ولن يقبل بتبخّر فرصة التغيير الأخيرة. وهذا رد فعل طبيعي من قيادة المنظمة، خصوصا بعد تعطيل الرئيس سبل الحوار، ما عدا جلسات معدودة ومتفرّقة وشكلية عقدها معهم، وفي إطار توازناته السياسية، في مقابل مُضي حكومته في مفاوضات مالية مع الجهات الدولية المانحة ببرنامج إصلاحاتٍ غير متفق عليه، ستكون الطبقة الوسطى ضحيته الرئيسية، ويتعارض، في جوهره، مع الاتفاقيات الاجتماعية المبرمة مع الاتحاد ومطالبه المتواصلة بالزيادة في أجور أعوان (موظفي) الوظيفة العموميّة والقطاع العام للتعويض عن تدهور المقدرة الشرائية للشغّالين.

بقدر ما استطاع الرئيس قيس سعيّد أن يحظى بدعم نخبوي واسع في بداية انقلابه على البرلمان المنتخب، بما يمثله هذا البرلمان من رمزية لمنظومة ما بعد الثورة، مستغلا في ذلك العاطفة الشعبية المشوّهة بالافتراء والتجييش، فإنه لم يتنبه إلى أنّ سخط جزء من الناس على ديمقراطية لم توفر لهم الرفاه لا يعني قبولهم بديكتاتورية تذهب بهم وبوطنهم إلى الإفلاس، وتلحقهم بنادي باريس أو بحلف التطبيع مع إسرائيل. كما أنه لم يدرك أن صمت بعض الأحزاب والجمعيات، في البداية، عن استهداف بعض السياسيين وانتهاك حقوقهم وحرّياتهم، في إطار التشفي أو الزعم بضرورة إنهاء مرحلة سيطرة الاسلام السياسي، لا يعني قبولهم بالاستغناء عن الأحزاب والأجسام الوسيطة وخروجهم جميعاً إلى التقاعد السياسي المبكّر.

يتهدّد تونس خطران، الاستبداد والإفلاس، وكلاهما إعلان نهاية للتجربة الديمقراطية، وهو ما يفرض على النخبة التونسية، بكلّ أطيافها وألوانها، أن تتحد وتسرّع بإنهاء هذا العبث، وأن تدرك أنّ خلافاتها وتجاذباتها سابقا مهّدت الطريق للسطو على مؤسسات الحكم، وأنّ مواصلة التربص بعضهم ببعض سينتهي بهم جميعاً إلى الإذعان لسلطة الأمر الواقع وخروجهم من أصغر أبواب الديمقراطية.

محمد خليل برعومي
محمد خليل برعومي
كاتب وباحث تونسي