تونس .. الإعدام والتشريع وأزمة الضمير

تونس .. الإعدام والتشريع وأزمة الضمير

05 أكتوبر 2020

(Getty)

+ الخط -

هزّت موجة عنف جدّت أخيراً في تونس الرأي العام لبشاعتها، وأثارت جدلاً حادّاً ربما ساهم الإعلام في تضخيمه من خلال كثافة الضوء الذي سلط عليها واللعب على تحريك مشاعر الجمهور، ولكن ما حدث لم يكن أمراً هيناً، فكل الإحصائيات تقريباً تذهب في اتجاه تأييد أن ثمة منحىً تصاعدياً لمنسوب العنف في تونس، على غرار النشل والسطو والاغتصاب والقتل.
تردّدت أصداء موجة العنف في مختلف صفحات التواصل الاجتماعي، وجعلت منها وسائل الإعلام مادة للتحليل والنقاش، حتى غدت حديث الساعة، ولعل أكثر الجرائم وحشية وفظاعة قتل شابة بعد اغتصابها ورمي جثتها في مجرى مياه في العاصمة. ارتكب الجريمة عامل بناء متّع أخيراً بعفو رئاسي. وقد التقط رئيس الجمهورية، قيس سعيد، هذا الإمتعاض مما آلت إليه الأمور، خصوصاً وقد أزهقت عشرات الأرواح البريئة، ليركب موجة السخط الشعبي، من أجل تعزيز شعبيته، مطالباً بتطبيق حكم الإعدام، فبدا الرجل وكأنه ينطق بالضمير الجمعي لمجتمعٍ يبحث عن عدالةٍ بدت معطوبة.

الإحصائيات تذهب في اتجاه تأييد أن ثمة منحىً تصاعدياً لمنسوب العنف في تونس، على غرار النشل والسطو والاغتصاب والقتل

تجمّع بعض أهالي الضحايا أمام القصر الرئاسي، مطالبين بتطبيق حكومة الإعدام، كما تلت هذه التحركات اعتصامات لأهالي الضحايا أمام محاكم عديدة في المحافظات. ونقلت قنوات عديدة هذه التحرّكات، كما لم تخل مختلف البرامج التلفزيونية من تحقيقات، وتغطيات لهذه الجرائم، واستضافت سياسيين ومختصين في العلوم الاجتماعية والنفسية، فضلاً عن نشطاء حقوقيين، فبدا الانقسام واضحاً بين مخيمين كبيرين: مخيم ينادي بتطبيق حكومة الإعدام التي تم تعليق تنفيذها منذ سنة 1991 ومخيم آخر يطالب بإلغاء هذه العقوبة أصلاً، واعتبارها انتكاساً خطيراً يتنكّر لما نصّ عليه دستور البلاد، فضلاً عن مختلف العهود والمواثيق التي صادقت عليها تونس. يؤكّد الفصل 22 من دستور 2014 أن "الحق في الحياة مقدّس، لا يجوز المساس به إلا في حالات قصوى يضبطها القانون". وكان آخر حكم بالإعدام قد نفذ في تونس في نوفمبر/ تشرين الثاني 1991. ومنذ أكثر من ثلاثة عقود، ظلت الأحكام الصادرة، والقاضية بالإعدام، معلقة، وتم اتخاذ هذا القرار في عهد الرئيس بن علي، حتى يبدو، في نظر المنظمات التي انتقدت انتهاكاته حقوق الإنسان في تونس، ملتزماً بالقيم الإنسانية السامية، ومنتصراً لحق الحياة، وكان ذلك رشوة سياسية قدّمها النظام لتلك المنظمات تحت ضغطها المستمر.

يؤكّد دستور 2014 أن "الحق في الحياة مقدّس، لا يجوز المساس به إلا في حالات قصوى يضبطها القانون"

أحيت مجدّداً موجة العنف أخيراً، وما أثارته من ردود أفعال مختلفة، تحرشاً بنشطاء حقوق الإنسان، إذ دان نوابٌ هؤلاء المناضلين، متهمين إياهم بتبييض الإجرام والدفاع عن القتلة. وقد صدرت عموماً عن رموز النظام السابق الذين أبدوا حسرة على بن علي، محاولين إبراز عهده كأنه كان عهد السلام والوئام، في لحظة متخيّلة من حنين زائف، والحال أن جرائم عديدة وقعت في تلك الفترة بالذات، وهزّت الرأي العام لبشاعتها أيضاً. وبعيداً عن هذا الجدل الحاد الذي ما زال متواصلاً، وعن مختلف التوظيفات التي حفّت بجرائم العنف تلك، فإن ما يخفيه هذا التوتر العميق إزاء حكم الإعدام يعكس ما يعتمل في الضمير الجمعي للتونسيين من مشاعر ومواقف متناقضة، تبرز حجم الشرخ العميق بين منظومتين قيميتين متقابلتين، لم يفلح الدستور ومختلف القوانين في رتقه.

هذه الجرائم الفظيعة عادة ما ترتكب في أوساط اجتماعية فقيرة، تقطن غالباً الأحياء الهامشية المنتشرة في أحزمة المدن أو القرى والأرياف النائية

يبدو أن التحديث القسري المعتمد على قوة القانون وحده لا يصمد طويلاً، خصوصاً في أثناء الأزمات. وليست هذه الحالة خاصة بتونس، فقد سجّل مثل هذا النكوص في مجتمعاتٍ ديموقراطيتها عريقة، أصابها مثل هذا التردّد والتراجع في أثناء أزمات حادّة على غرار أحداث "11 سبتمبر" في عام 2001، وحرب الخليج في 1991، ومختلف العلميات الإرهابية المرتكبة، وموجات اللجوء الكثيفة التي هزّت أوروبا وغيرها من البلدان. وقد رأينا مفكرين وساسة كباراً قد انحازوا إلى أطروحات يمينية شوفينية، تم التنازل فيها عن حقوق الإنسان وأبسط قيم المساواة والعدالة. أما في تونس، فإن هذه الجرائم الفظيعة عادة ما ترتكب في أوساط اجتماعية فقيرة، تقطن غالباً الأحياء الهامشية المنتشرة في أحزمة المدن أو القرى والأرياف النائية. اختفت جرائم الثأر منذ عقود طويلة، وقبل الناس طوعاً وكرهاً بحكم القضاء المدني الذي تم توحيده، مباشرة إثر الاستقلال سنة 1956، واختفت بذلك كل أشكال القصاص وغيرها من العقوبات الخارجة عن هذه المؤسسة. ويعتقد بعضهم أن من شأن مثل تلك العقوبات "الجماعوية" أن تهدّئ مشاعر أهل الضحية، وتمتص غضبهم وتحول دون تواصل مشاعر التشفي، كما من شأنها أن تردع نوازع العنف، وتجعل من المجرم "عبرة لمن يعتبر". ولعل رئيس الجمهورية أراد أن يستثمر هذه الأطروحة ضمن منوال نفسي – ديني، حتى يبدو متعاطفاً مع أهل الضحايا، متبنياً قضاياهم، وهم الذين تظاهروا أمام قصره الرئاسي، رافعين شعارات القصاص في نشاز عما توافقت عليه الجماعة الوطنية منذ عقود، خلنا فيها أن الحداثة استوطنت ضمائر الناس، وصاغت قناعاتهم إلى الأبد.
لا نجد قرائن وبراهين ثابتة تؤكد أن الإعدام شكّل رادعاً فعالاً لرغبات القتل وجرائم العنف، إذ تظل الإحصائيات تنتهك هذا اليقين الزائف الذي يتحصّن وراءه المنادون بتطبيقه، فتجارب عديدة جرت في مجتمعات عديدة، على غرار الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبلدان عربية كثيرة، تثبت أن إصلاحات جوهرية عميقة لسلطة القضاء (القوانين، المحاكم، السجون..)، ورسم مخطّطات عملٍ لاستهداف الفئات المعرّضة للجريمة من أجل إدماجها، والتمكين الاقتصادي لها، تظل أكثر فعالية وجدوى في تجفيف منابع الجريمة وتقليص عدد الضحايا.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.