تواصل الحضارات لا صدامها في مونديال قطر

تواصل الحضارات لا صدامها في مونديال قطر

08 ديسمبر 2022

مشجّع سويسري يرسمون وجهه في سوق واقف بالدوحة (28/11/2022/فرانس برس)

+ الخط -

عبّرت الحملة العنصرية المتغطرسة والممنهجة ضد مونديال قطر 2022 في أحد أوجهها عن صدام الحضارات، لا تواصلها وتلاقيها وتعارفها وتفاعلها، بمعنى أن الاعتراضات العنصرية كانت في المبدأ ضد أن تنال دولة عربية إسلامية تملك حضارة وثقافة مختلفة شرف التنظيم، والتشكيك ليس فقط في أحقيتها، وإنما قدرتها على القيام بالمهمة من دون معرفة واطلاع على إمكاناتها وقدراتها، أو انتظار اختبار النتيجة، انطلاقاً من مزاج الاستعلاء الحضاري نفسه.

الحملة الممنهجة، ومع فشلها في نقل المونديال وعدم تنظيمه في قطر، رغم تسريبات وإشاعات متعمّدة ومبرمجة عن ذلك، لجأت إلى الدعوة إلى مقاطعة المونديال نفسه، وعدم سفر المشجّعين إلى الدوحة، ووصل الأمر حتى إلى درجة عدم إقامة البلديات والمجالس المحلية شاشات كبيرة لمتابعته في أوروبا (ألمانيا وفرنسا تحديداً) كما جرت العادة ثم وصلت العنصرية، والغطرسة الحضارية، إلى مداها بتصريح مدرب منتخب ألمانيا، هانز فليك، عن عدم الاحتفال في الدوحة في حالة الفوز بكأس العالم، وكأنه يقدم تنازلا للقطريين والعرب والمسلمين بهذا الاحتفال، بينما عاقبه القدر بالخروج المهين من دوري المجموعات، والتعرّض لسيل من السخرية والشماتة.

الحملة العنصرية المتعالية والممنهجة، وكما تبدّت بتجلياتها السياسية والإعلامية والرياضية المختلفة، استندت أو يمكن إدراجها ضمن قاعدة صدام الحضارات، بمعنى أنها لم تر في تنظيم المونديال في قطر فرصة لتواصل الحضارات وتلاقيها، وبالتالي التعرّف عن قرب على أجواء الثقافة العربية الإسلامية بشكل عام، والخليجية والقطرية بشكل خاص.

وجّه المونديال نفسه منذ اليوم الأول صفعة إلى العنصريين المتعصبين والمتغطرسين عبر مجرياته وأحداثه المتعدّدة

وجّه المونديال نفسه منذ اليوم الأول صفعة إلى العنصريين المتعصبين والمتغطرسين عبر مجرياته وأحداثه المتعدّدة، بداية من حفل الافتتاح الرائع الذي أكد على فكرة تواصل الحضارات والعرقيات لا صدامها، وأن اختلاف الشعوب والقبائل كان بهدف التعارف لا الصدام، حسب الآية القرآنية "يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، كما في مشهد الحوار بين الممثل العالمي مورغان فريمان والشاب القطري غانم المفتاح من ذوي الاحتياجات الخاصة، والذي جسّد شكلاً ومضموناً تفسيراً للآية الكريمة، كما تواصل وتعارف وتفاعل الحضارات والثقافات المختلفة.

استمرّ الأمر مع التنظيم المحترف والرائع للمباريات، بالمعنيين الرياضي والجماهيري، مع انسياب تنقل المنتخبات والمشجعين بأمان تام، وقدرة دولة عربية إسلامية على القيام بالمهمة مع إمكاناتها وقدراتها الهائلة، علماً أنها هذه وحدها غير قادرة على الإبداع والتفوّق وفق التصريح الشهير لأسطورة فرنسا لاعباً ومدرباً، لوران بلان، "التفوّق لا يشترى بالمال وإنما بالعمل والجد والمثابرة".

طوال أيام المونديال، تبدّى تواصل الحضارات وتلاقيها وتعارفها وتفاعلها بشكل بهيج في ساحات الدوحة وميادينها، وتحديداً في محيط الملاعب والطرق المؤدّية إليها، خصوصا خط المترو الذي يمتد لـ75 كم تقريباً، إضافة إلى سوق واقف الذي احتضن فعاليات ثقافية وفنية وتراثية تقام هناك، حيث الأمم المتحدة مختصرة أو مجمّعة كما قال أحد المشجّعين الأجانب، والتي تضم أساساً جماهير ومواطني 32 منتخباً، إضافة إلى السياح الآخرين مع حضور جماهيري لافت لفلسطين، مع حضور القضية نفسها.

حضر الطعام باعتباره معبّراً عن ثقافات الشعوب وتقاليدها، كما باعتباره وسيلة للتواصل والتلاقي وتعارف الحضارات

ثمة تجليات لتواصل الحضارات وتلاقيها وتعارفها وتفاعلها في المونديال، رأيناها أولاً عبر الكرم والتسامح العربي الإسلامي الذي أبدته قطر بسخاء معهود عنها. ومن هذه التجليات يمكن الإشارة كذلك إلى عدة معطيات، أولاً اللباس، مع ارتداء المشجّعين الأجانب الزيّ العربي الإسلامي الشماغ والعقال، بدلاً من القبّعات الغربية والجلابية "دشداشة"، بدلاً من الزيّ الأوروبي التقليدي، بينما بدا لافتاً تلوينها أيضاً بأعلام الفرق المشاركة وألوانها ورموزها، حيث جاء المشهد زاهياً وبهيجاً وإبداعياً، ومعبّراً بامتياز عن تواصل وتفاعل الحضارات.

إضافة إلى الأزياء، حضرت الموسيقى غذاء الروح أيضاً بتفاعل كبير مع الأنغام والألحان العربية والخليجية، خصوصا التراثية منها. وهنا يمكن تذكّر مشهد رقص الفتاة اليابانية العفوي والتلقائي والجميل على أنغام فرقة تراثية قطرية مع اندماج وإعجاب أعداد كبيرة من المشجّعين والجماهير. وإلى الأزياء والموسيقى، حضر الطعام باعتباره معبّراً عن ثقافات الشعوب وتقاليدها، كما باعتباره وسيلة للتواصل والتلاقي وتعارف الحضارات، حيث تذوّق ملايين المشجّعين الوجبات العربية التقليدية والمجبوس والكبسة (طلبها منتخب المكسيك وفرق أخرى مشاركة في المونديال)، على اختلاف أنواعها وأشكالها وحتى أطباق الفطور العربي التقليدي والشهي مع احتساء الشاي والكرك على الطريقة الخليجية التقليدية. مع حضور وتقديم أطباق عربية بمذاق وشكل قريبين ليس فقط إلى المزاج الغربي، وإنما الآسيوي أيضاً مع حضور لافت لمشجعي اليابان وكوريا الجنوبية خاصة بعد إنجازهم التاريخي بالتأهل إلى ثمن النهائي وتجاوز الدور الأول في مجموعات ضمّت فرقاً عريقة مثل البرتغال وإسبانيا وألمانيا.

إلى ما سبق، جرى تنظيم رحلات للمشجعين في الصحراء (والكثبان الرملية) خارج الدوحة، للتعرّف على الطبيعة وقضاء يوم بين أحضانها بحضور المعطيات والعوامل السابقة "الزيّ والطعام والموسيقى". كما ساهم منع المشروبات الروحية في محيط الملاعب، وعلى عكس الانتقادات العنصرية المتعالية والمغرضة، في تهيئة أجواء أفضل للتفاعل والتواصل الحضاري دون أزمات ومشاكل وأعمال شغب وتجاوزات أخلاقية. وجرى التفاعل الحضاري، في العموم، بين ملايين، علماً أن الأدوار الأولى لمونديال قطر شهدت حضورا جماهيريا كبيرا بلغ 2.5 مليون مشاهد، أعلى بكثير من العدد المسجّل في مونديال روسيا قبل أربع سنوات.

عندما يكون مونديال قطر عنواناً لتواصل الحضارات وتلاقيها وتعارفها، وهو كذلك فعلاً، لا بد أن تكون فلسطين حاضرة بالضرورة أيضاً

إضافة إلى المعطيات والشواهد السابقة، اختصرت قصة الشاب الفلسطيني، حسام السفاريني، مع أسرة مدرّب منتخب البرازيل تيتي، التواصل والتلاقي والتعارف الحضاري بأسمى صورها وأنصعها. والقصة ببساطة أن حسام صادف سيدة عجوزاً مع ابنتها الشابة، تحملان طفلين نائمين بعد مباراة البرازيل ضد سويسرا في دوري المجموعات، فتطوع بحمل أحد الطفلين النائمين من الاستاد إلى محطة المترو ومحل الإقامة، علماً أن المسافة من الاستاد إلى المترو مثلت ساحة التلاقي الحضاري الأساسية في المونديال. لم يعرف الشاب الفلسطيني هؤلاء، وهو تعاطى بشهامة ومروءة مع الأمر على أنه طبيعي أو عادي جداً من دون أن يتعرف عليهم أو حتى يعرّفهم على نفسه، ولكن عند سماعه القصة ورؤية الصورة التي باتت شهيرة بدا مدرب البرازيل تيتي مبهوراً بالمشهد الذي لم ير مثله في حياته، كونهم غير معتادين عليه، وبحث عن الشاب لمقابلته وشكره، كما دعاه لحضور تدريب المنتخب، متحدثاً عن معاني الإخاء والإنسانية والاحترام أساسا لكرة القدم التي هي أكثر من مجرد لعبة، بينما غرّدت ابنته بعنوان لافت "انشروا الاحترام والإنسانية". لبّى حسام الدعوة طبعاً، وجاء مرتدياً الكوفية الفلسطينية مع علبة معمول هدية تعبيراً عن الكرم والتفاعل والتعريف وتفاعل الحضارة أيضاً، وعاد بقميص منتخب البرازيل هدية موقّعاً من المدرّب واللاعبين، وعندما يتم توجيه دعوة له لزيارة البرازيل ستكون القهوة حاضرة بالتأكيد مع التذكارات الأخرى أيضاً.

في السياق، لا يتناقض رفض التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي مع المعطيات السابقة، وهو في قلب تواصل الحضارات لا صدامها، كون الاستعمار الإسرائيلي نفسه تعبيرا عن الصدام الحضاري، وكان ولا يزال مدعوماً ممن دعوا إلى المقاطعة العنصرية المتغطرسة للمونديال. وهنا يمكن التذكير بتصريح الرئيس الأميركي، جو بايدن، "لا حاجة لتكون يهودياً كي تصبح صهيونياً ولو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا إيجادها وزرعها هناك". وليس هذا الوجود أو الزرع تواصلاً وإنما صدام وقتل وتشريد وتدمير للحواضر والقرى الفلسطينية. حسب مقولة رئيس الوزراء السابق، أرئيل شارون، الشهيرة عن إسرائيل قاعدة أو حاملة طائرات أميركية برّية في المنطقة، والتواصل لا يتم حتماً بالقواعد العسكرية والاستعمار وحاملات الطائرات.

وفي العموم، يمثل دعم القضية الفلسطينية تعبيراً أصيلاً عن الرغبة في إحقاق الحق، والعدالة، ولا إمكانية أصلاً للحديث عن التواصل الحضاري من دون رفع الصوت عالياً والمطالبة بحلّ القضية حلاً عادلاً وشاملاً وفق مواثيق الأمم المتحدة وقراراتها نصّاً وروحاً. وببساطة واختصار، عندما يكون مونديال قطر عنواناً لتواصل الحضارات وتلاقيها وتعارفها، وهو كذلك فعلاً، لا بد أن تكون فلسطين حاضرة بالضرورة أيضاً.