تنصّت وتلصّص في لبنان ..أحمد أصفهاني يتقصى حكايات

تنصّت وتلصّص في لبنان .. أحمد أصفهاني يتقصى حكايات وطرائف

21 مايو 2021
+ الخط -

التجسّس على الخصوم، والتنصت عليهم، ومراقبة تحرّكاتهم، ورصد ما يفصحون وما يُضمرون، وتوقُّع ما سيُقدمون عليه، ذلك كله شأنٌ قديم من شؤون السياسة والرياسة والحكم. وشاعت في كتب التاريخ كلماتٌ من عيار العس والعيون والآذان، لتدلّ على مهنة التجسّس و"البصبصة" على الناس والتنقيب عن الأخبار وكشف خزائن الأسرار. وفي العصر الحديث، صارت أجهزة الأمن تتنصّت على أي شيء، حتى على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء والنواب، وتزرع اللاقطات الصوتية والبصرية في مكاتب الأشخاص المستهدَفين وفي منازلهم. والتنصت اليوم يعمُّ العالم كله، وأي شيءٍ يمكن التنصت عليه ومراقبته. وبهذا المعنى، الناس في كل مكان مكشوفون للأجهزة الاستخبارية الكبرى ذات الإمكانات غير المحدودة. وجميع مكالماتنا الهاتفية، على سبيل المثال، وهي بالمليارات يوميًا، تمر عبر الأقمار الصناعية، فتعترضها أجهزة هائلة القدرة، مصمّمة ببراعة لهذه الغاية، ولديها مفاتيح دقيقة تقوم بتحليل كل ما يثير ريبة الحواسيب، بحسب برمجتها ومفاتيحها التي لا تُحصى. وعلى هذا المنوال، تسير العمليات المالية الدولية، فتجري مراقبة حركة التحويلات والمعاملات بدقة. ومعروفٌ أن أي شخص حين يتولى رئاسة جهاز أمني، أول ما يفعله سحب مِلفّه الشخصي من محفوظات ذلك الجهاز وإتلافه. 

التنصّت في لبنان حديث نسبيًا، وتاريخه لا يعود إلى أبعد من عهد الاحتلال الفرنسي

التنصّت في لبنان حديث نسبيًا، وتاريخه لا يعود إلى أبعد من عهد الاحتلال الفرنسي، لأن لبنان، دولة أو كيان سياسيا، لم يكن قد ظهر إلا منذ سنة 1920 فصاعدًا تحت سلطة فرنسا. ولم تعرف المؤسسات اللبنانية التنصّت إلا في زمن الاستخبارات العسكرية (المكتب الثاني) التي أُسست في 1/10/1945 برئاسة الضابط إميل البستاني. ثم حذت حذوها مديرية الأمن العام التي أُنشئت في 29/7/1948 برئاسة الأمير فريد شهاب. ويُشهد للمكتب الثاني أنه اكتشف شبكة شولا كوهين الإسرائيلية في سنة 1962 وغيرها من شبكات التجسّس التي عملت على تجنيد أشخاص يعملون في مراكز الهاتف، وكانت مهماتهم مراقبة هواتف معينة، وتقديم التقارير عن محصلة عمليات الاستماع. ومن الذكريات التي مرّت قبل خمسين سنة  قيام صائب سلام، رئيس الحكومة اللبنانية حينذاك، بعملية استعراضية؛ فاقتحم برفقة الوزير جميل كبي غرفة التنصّت في مبنى وزارة البريد والبرق والهاتف في 1971 وأقفلها. لكن، لم يمر شهران حتى كان سلام نفسه، ومعه رئيس الجمهورية سليمان فرنجية، يقرآن تقارير التنصت على الهواتف. وكل ما فعله صائب سلام آنذاك، علاوة على حركته الاستعراضية، هو تغيير قفل باب غرفة التنصت وتبديل العناصر المكلّفة تلك المهمة. 

حرق السجلات 

عُين الأمير فريد شهاب مديرًا لمديرية الأمن العام في 1948، أي في معمعان النكبة الفلسطينية واللجوء الفلسطيني إلى لبنان، وبقي في هذه الوظيفة حتى 1958، وبالتحديد حتى نهاية الحوادث المسلحة التي اندلعت ضد حكم الرئيس كميل شمعون في ما عُرفت ب"ثورة 1958". وكان فريد شهاب اكتسب خبرة التنصّت وشؤون الأمن إبّان خدمته في جهاز التحرّي، ثم في الشرطة العدلية في زمن الانتداب الفرنسي. ويقول كيم فيلبي، أحد القادة الكبار في جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية، وكان في الوقت نفسه جاسوسًا للاتحاد السوفياتي، إن فريد شهاب هو أحد عملاء الاستخبارات البريطانية، وإن دوري شمعون وأحمد إسبر وروبير أبيلا صاحب صحيفة "الزمان" هم عملاء لجهاز MI6 (راجع تصريحات كيم فيلبي لصحيفة "الأزفستيا" السوفياتية في 1/10/1971 بعد هروبه من بيروت إلى موسكو، والتي نقلتها الصحف اللبنانية في 3/10/1971). 

لم تعرف المؤسسات اللبنانية التنصّت إلا في زمن الاستخبارات العسكرية التي أُسست في 1/10/1945 برئاسة الضابط إميل البستاني

ترك فريد شهاب كمية كبيرة من سجلات التنصّت، واحتفظ ابنه حارس شهاب وابنته يمنى شهاب عسيلي بها فترة طويلة، ثم أودعاها، ومعها أوراق والدهما، في "مركز الشرق الأوسط" التابع لكلية سانت أنطوني في جامعة أوكسفورد البريطانية. وهذه الأوراق والسجلات دُفعت أولاً إلى الكاتب والباحث أحمد أصفهاني الذي أكبّ عليها، واستخلص منها ثلاثة كتب: "في خدمة الوطن: مختارات من الوثائق الخاصة للأمير فريد شهاب" (دار كتب للنشر، بيروت، 2005)، و "أنطون سعادة والحزب السوري القومي الاجتماعي في أوراق الأمير فريد شهاب (دار كتب للنشر، بيروت، 2006)، و "لبنان وصيف الدم – 1958: وثائق التنصّت على الهاتف" (دار كتب للنشر، بيروت، 2021، 531 صفحة). وبهذا الجهد، يكون الصديق البحّاثة أحمد أصفهاني قد فعل ما يفعله أهالي حلب الذين تمكّنوا من صنع نحو مائتي صنف كبّة و84 نوعًا من الكباب و50 شكلاً من العجّة و50 نوعًا من الجبن. وكان الزميل نقولا ناصيف استفاد من أوراق فريد شهاب وسجلات التنصّت في أثناء إعداد كتابه "تاريخ الأمن العام: 1945-1977" (المديرية العامة للأمن العام، بيروت، 2013). وبطبيعة الحال، صارت معظم هذه السجلات لا قيمة كبيرة لها الآن جراء مرور الزمن. وحتى يعثر الباحث على ما هو مفيد، يكون عليه أن يقرأ الكثير ليستخلص القليل، مثل قنطار الخرّوب الذي يُستحلب منه كيلو دبس فقط. وقد تصدّى أحمد أصفهاني لهذه المهمة بمهارة، وتمكّن من أن يضع أمام القارئ خلاصة جهده في الكتب الثلاثة، ووفّر علينا استحلاب كيلو الدبس من قنطار الخروب. غير أن ما أثار حفيظتنا أن الأمير فريد شهاب احتفظ بهذه الوثائق لديه، بينما كان يجب أن تُحفظ في أرشيف مديرية الأمن العام. ثم لماذا أحرق المير فريد شهاب بعضًا من سجلات التنصّت مع أنها سجلات رسمية، لا يجوز التصرف بها بناءً على تقديره الذاتي؟ 

الصورة
فريد شهاب
فريد شهاب

إتلاف الوثائق وإحراق السجلات يبرهنان أن مؤسساتنا، والقائمين عليها، ما زالت عقلية الإخفاء والكتمان والتدمير هي السائدة فيهم، ولم ترتقِ إلى الإيمان بأن هذه السجلات هي ملك للمواطنين، فلا يجوز التصرّف بها أو إتلافها أو منعها عمن يجب أن يطّلع عليها. وهنا بالتحديد كان لأحمد أصفهاني فضل المبادرة إلى العمل على تلك السجلات وكشف محتوياتها ونشرها على الناس. وعلاوة على ذلك، عمد إلى كتابة مقدمة تحليلية عن حوادث عام 1958 وعن السياسة الأميركية والعالم العربي، خصوصًا مع إعلان "مبدأ أيزنهاور" في 5/1/1957. واحتوى الكتاب أيضًا مقدمة ثانية لسليم مجاعص عن حوادث عام 1958، اعتمادًا على وثائق وزارة الخارجية الأميركية. وهكذا تضمن الكتاب فصولًا متكاملة عن تاريخ التنصّت على الهاتف في  لبنان، وعن جهاز الأمن العام أداة سياسية، وعن مقدّمات حوادث 1958 (حلف بغداد وانقسام اللبنانيين على الموقف من جمال عبد الناصر)، والدور الأميركي في وقائع تلك الأيام (الوحدة السورية – المصرية، وانقلاب 14 تموز في العراق)، ثم نصوص سجلات التنصت للأعوام 1955 و1956 و1957 و1958. وكانت أولى الوثائق مؤرّخة في 24/7/1947، وآخر وثيقة مؤرّخة في 1/9/1958. ويُلاحظ أن سنواتٍ خمسا غابت كليًا، ولا وثائق عنها في الكتاب، ماعدا ثلاث مكالمات فقط تعود إلى 1957. وبحسب رواية يمنى شهاب عسيلي، فإن والدها فريد ربما أحرق سجلات التنصّت العائدة لتلك السنوات من بين ما أحرقه (ص 13). لهذا، ليس مستغربا ألا يتضمن الكتاب أي خبر عن اغتيال الصحافي غندور كرم في 5/11/1957، أو اعتقال لويس دوسان في 11/5/1958، حتى أن اغتيال نسيب المتْني الذي فجّر الحوادث في 1958 لا يحظى إلا بإشارة عابرة في الصفحة 158. 

صيف 1958: وقائع ورجال

غداة العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956، رفض الرئيس اللبناني، كميل شمعون، قطع علاقات لبنان مع بريطانيا وفرنسا، على غرار ما فعلت معظم الدول العربية، وتحالف مع تركيا وإيران والعراق والأردن ضد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم وقّع اتفاقية أنقرة في اللحظة التي كانت تركيا تحشد جيشها على الحدود  مع سورية، بالتزامن مع الحشود الاسرائيلية على الحدود السورية أيضًا. وفوق ذلك، عمد إلى تزوير الانتخابات النيابية في 1957، وأسقط فيها كمال جنبلاط في الشوف، وصائب سلام وعبدالله اليافي في بيروت، وأحمد الأسعد في الجنوب اللبناني، وصبري حمادة في الهرمل. وكانت الغاية الإتيان بمجلس نيابي مطواع، يمدّد الولاية الرئاسية لكميل شمعون. وهاج مناصرو أولئك الزعماء الخاسرين اعتراضًا على ذلك التزوير الفاضح، ورفضًا للسياسة الخارجية الموالية للغرب التي انتهجها شمعون، وتنديدًا بمحاولة تمديد فترته الرئاسية. وفي خضم هذا الغليان الشعبي، وقعت حادثة اغتيال الصحافي المعارض، نسيب المتني، في 8/5/1958، فانقلبت الأمور، وتحوّلت إلى اشتباكات مسلحة بين المعارضة والجيش اللبناني الذي انحاز إلى جانب شمعون. وقد انتهت حوادث 1958 في 23/9/1958، وتخلّلها الانزال العسكري الأميركي على شواطئ مدينة بيروت في 15/7/1958 غداة الانقلاب الدموي الذي أطاح الملكية في العراق، وانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية في 31/7/1958.

إتلاف الوثائق وإحراق السجلات يبرهنان أن مؤسساتنا، والقائمين عليها، ما زالت عقلية الإخفاء والكتمان والتدمير هي السائدة فيهم

اشتهر في صيف ذلك العام رجال كثر، أمثال كمال جنبلاط وصائب سلام ومعروف سعد وصبري حمادة وشبلي العريان ورشيد كرامي وسليمان فرنجية من المعارضة، وعبد الحميد السرّاج وبرهان أدهم وأكرم ديري وسامي جمعة من استخبارات الجمهورية العربية المتحدة في الإقليم الشمالي (سورية)، ومارون عرب من الاستخبارات البريطانية، وغصن الزغبي من المخابرات الأميركية، ومحمد نسيم من استخبارات السفارة المصرية في بيروت، علاوة على رجال أمثال رشيد شهاب الدين (المقاومة الشعبية في بيروت)، وعدنان الحكيم (حزب النجادة في بيروت)، وسامي الصلح (رئيس حكومة لبنان آنذاك)، وشارل مالك وزير الخارجية، والسفير الأميركي روبيرت ماكلينتوك والسفير المصري عبد الحميد غالب. 

ينقل ويلبور كراين إيفلاند مبعوث الرئيس الأميركي إلى كميل شمعون، ومؤلف كتاب "حبال من رمل" (دار المروج، بيروت، 1985) عن غصن الزغبي مدير محطة CIA في لبنان أن كميل شمعون وشارل مالك وسامي الصلح كانوا عملاء لوكالة الاستخبارات الأميركية. ويروي اسكندر رياشي في كتابه المهم "رؤساء لبنان كما عرفتهم" (أطلس للنشر والتوزيع، دمشق، 2006، ص111) أن كميل شمعون كان، قبل نقل بندقيته إلى الكتف الأميركية، صديقًا شديد القرب من المستر فورلنغ، المستشار العام للقنصلية الانكليزية في بيروت قبل استقلال لبنان عن فرنسا. وكميل شمعون هذا لم يتورّع عن طلب السلاح من يتسحاق رابين في 1958، حين كان يومذاك قائدًا للمنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، فأرسل إليه رابين 500 بندقية. أما شارل مالك فلم يُنتخب رئيسًا للجمعية العامة للأمم المتحدة إلا بعد توصيةً من ويلبور كراين إيفلاند إلى جون فوستر دالاس وأخيه ألان دالاس. وكانت لشارل مالك علاقة وثيقة بمندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، ووزير خارجيتها في ما بعد، أبا إيبان. ومن غرائب أهل بيروت أنهم أحرقوا منزل سامي الصلح في منطقة حوض الولاية في 1958، ثم عادوا لينتخبوه نائبًا عن مدينتهم في 1964. وسامي الصلح كان ظريفًا ومتواضعًا ومحبًا للناس، ويروى عنه أنه استقبل وفدًا يمثل تظاهرةً انطلقت من الجامعة الأميركية في بيروت إلى السراي الحكومي، وكان الشعار الذي ارتفع بين المتظاهرين هو شعار حركة القوميين العرب: "وحدة تحرّر ثار دم حديد نار". وعندما التقى الوفد الرئيس الصلح، بادرهم بالقول: "شو بابا، هيدا شعار ولّا شاورما؟" (راجع: سمير شاهين، "سنوات الجمر: ذكريات من الصحافة والسياسة"، مطبعة المتوسط، بيروت، 2003). 

البيارتة الأربعة 

تزعّم مدينة بيروت في حوادث عام 1958 أربعة أشخاص، صائب سلام وعبد الله اليافي (من أصول دمشقية وفلسطينية وزوجته تدعى هند العظم) وعبد الله المشنوق (من مدينة حماة) وعدنان الحكيم. ويُضاف إليهم كل من نسيم مجدلاني وحسين العويني وبعض القبضايات من عيار حنا يزبك وإبراهيم قليلات ورشاد قليلات وأحمد ستيتية وأحمد المغربي (أبو عباس)، وهؤلاء كانوا متفقين على الوقوف في وجه كميل شمعون الذي ناصب جمال عبد الناصر العداء، ومختلفين على كل شيء تقريبًا. وقد ركّزت سجلات التنصّت على تتبع مكالمات البيارتة الأربعة بالدرجة الأولى، وقلّما عثرنا على تنصّتٍ يطال كمال جنبلاط وصبري حمادة ورشيد كرامي وأحمد الأسعد وقادة الحزب السوري القومي الاجتماعي. وأثار أولئك البيارتة الأربعة غيظ الجميع، بمن فيهم جمال عبد الناصر نفسه. وعلى سبيل المثال، يروي مايلز كوبلاند، رجل المخابرات الأميركية، أن إميل البستاني وفوزي الحص اقترحا، للخروج من الأزمة اللبنانية آنذاك، أن يلتقي كوبلاند عبد الناصر، وأن يطلب إليه وقف الدعم للبيارتة الأربعة، وأن يتصل، في الوقت نفسه، بالأميركيين لوقف دعمهم كميل شمعون. وفي اللقاء به، قال عبد الناصر لمايلز كوبلاند: لو كانت الأزمة اللبنانية تخصّه وحده من دون سواه، فإن ما سيفعله هو تنصيب اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية ورشيد كرامي رئيسًا للحكومة [وهو ما حدث في ما بعد]، ثم خرق سفينة البيارتة الأربعة لإغراقها بمن عليها جرّاء ما أذاقوا سفيره عبد الحميد غالب من المرارات (أنظر: مايلز كوبلاند، لعبة الأمم، أنترناشونال سنتر، بيروت، 1970، ص 271). 

الصورة
  (عدنان الحكيم وعبد الله اليافي وصائب سلام)
عدنان الحكيم (يمين) وعبد الله اليافي (وسط) وصائب سلام (يسار)

كانت الأموال تتدفق على البيارتة الأربعة من مصدرين: من دمشق مع عضو حركة القوميين العرب سميح البابا، فيتسلّمها أمين الصندوق خالد مطرجي، وهو ضابط سوري متقاعد قاتل في فلسطين، وخال ضابط المخابرات المشهور برهان أدهم؛ ومن القاهرة فيتسلمها حسن البحصلي. ومع ذلك، لم يتورع هؤلاء البيارتة عن فرض الإتاوات على الشركات والمتمولين. فقد فرض عدنان الحكيم على سكان وادي أبو جميل (الحي اليهودي في بيروت) مائتي ألف ليرة لبنانية (ص 276)، وأُجبرت شركة ليا للطيران على دفع مائة ألف ليرة، بعد أن صادر أنصار صائب سلام إحدى سياراتها، وهدّدوا الشركة بالنسف (ص 472)، وجرى إرغام آل مكاوي واليافاوي على التبرّع بـ 25 ألف ليرة لكل عائلة لمصلحة صائب سلام (ص 473). واشتكى الدكتور عبد الحفيظ طبارة مرارًا من أنه ما عاد قادرًا على الدفع لصائب سلام (ص 476). ومن بين الشخصيات التي تعرّضت للضغط فؤاد علم الدين ومحمد التقي وتيسير بركات وحسن السادات ومحلات أنيس عساف وسميح العلمي من البنك العربي (ص 498)، وبنك مصر وبنك أبو جودة (ص 499). وسرق حزب النجادة سيارة فيات لأحمد الحاج، وعندما راجع صاحبها زعيم النجادة  عدنان الحكيم، قال له الأخير: عليك دفع 500 ليرة لإعادتها إليك (ص 511)، تمامًا كما يحصل اليوم في بلدة بريتال البعلبكية، كأن شيئًا لم يتغير منذ ستين عامًا. وكانت المجموعات المسلحة التابعة للبيارتة الأربعة تقوم بعمليات التفجير والقتل، ثم ترمي ذلك على أنصار الحزب السوري القومي الاجتماعي، مثل حادثة نسف التراموي في محطة الناصرة (ص 204) وتفجير باب إدريس الذي نفذه خليل شهاب الدين، وأخبر مصباح سلام ضاحكًا: هيدول القوميين العكا...يت يلّي رميوها، أي العبوة الناسفة (ص338). ومصباح سلام هو شقيق صائب سلام الذي اتهم بتزوير سندات الملكية الخاصة بـ "أرض الغدير" الملاصقة لمطار بيروت الدولي. وعلى غرار ذلك من الكذب والافتراء، أخبر عدنان الحكيم سفير مصر في لبنان، عبد الحميد غالب، أن هناك عشرة من القوميين السوريين تسلموا جوازات سفر إسرائيلية، وسافروا إلى يوغوسلافيا، حيث كان الرئيس عبد الناصر يزور ذلك البلد، فما كان من السفير إلا أن أجابه: "كلام فارغ يا عدنان" (ص 363). وأخبر نسيم مجدلاني مصباح سلام عن مجموعةٍ في منطقة كركول الدروز في بيروت، توقف السيارات وتجبي الأموال من الركاب، فردّ مصباح سلام: هودي [هؤلاء] قوميين. فقال له: مجدلاني: بيناتنا، هودي من جماعتنا (ص 364). وأصدرت هيئة المقاومة الشعبية التي كان يقودها صائب سلام بيانًا استنكرت فيه الانفجار في بناية الغراوي، وألقت بالمسؤولية على عصابات كميل شمعون (ص 256). لكن عبد الحفيظ كريدية اعترف أنه الذي فجّر القنبلتين أمام سينما أمبير (ص 457). ولم يتورّع عدنان الحكيم، بحسب عبد الله المشنوق الذي أخبر صائب سلام عن الحادثة، عن قتل عبد الله نور الله، وهو من حزب النجادة (ص 509). وفي ما بعد، كشف رشيد شهاب الدين أن عدنان الحكيم أمر زهير رسلان الغراوي بقتل عبدالله نور الله (أنظر: رشيد شهاب الدين، بين رحى المخابرات العربية والغربية واليد الخفية الصهيونية، إصدار خاص، بيروت، لا تاريخ، ص 126). 

اللغة السياسية المنحطّة 

اشتُهرت حكاية كمال جنبلاط في مجلس النواب اللبناني، حين غضب من صائب سلام، وحار كيف يشتمه، فلم يجد غير عبارة "يا حبقوق"، لتعبر عن غضبه، وراح النواب يتساءلون عما يعني بكلمة "حبقوق"، ليكتشفوا أن حبقوق هو أحد أنبياء التوراة، وسفر حبقوق في العهد القديم هو من أقصر الأسفار. وكان جنبلاط حين يستغيب خصمه كميل شمعون، لا يتجاوز الأدب، فيقول عنه "هالمنحوس" (ص 89). لكن البيارتة الأربعة كانوا يتفنّنون في شتائمهم، فصائب سلام الذي كان يصف ريمون إدّة بـِ "السعدان"، وكميل شمعون بـِ "الجرذون" (ص 293) لا يتردّد في القول لحسين العويني: قل لحسن البحصلي أن يقول لأولاد المكاوي والبلطجي ولابراهيم المصري خليهم يستحوا بقى، والمصاري يلّي بعتوها يجوا ياخدوها ويدحشوها بط... هم (ص 192). وكان صائب سلام يقول عن حليفه عدنان الحكيم: "هذا العكر...ت"(ص201). أما إلياس ربابي من حزب الكتائب المعروف بعلاقته مع إسرائيل وبفساده المالي، فقد سُجّل له الكلام التالي: "ك... أخت ها العهد الخـ...، وكـ... إخت شمعون" (ص 78). فيما قال كاظم الخليل عن أحمد الأسعد: كـ... إخت يلّي  بزرو، عكر...ت" (ص82). ولبيار الجميل زعيم حزب الكتائب حصة من هذا الانحطاط اللساني، فقال مرة عن رشيد كرامي: "شو هالخ... رشيد" (ص 93). وكذلك عبد الله اليافي، وهو أول لبناني سُنّي يحوز الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون، والذي كان لا يتورع عن استغابة محمد خالد بالقول: "هيدا واحد عكر...ت بيلحوِس طي... رئيس الجمهورية. هيدا جحش وبغل الرئيس، وبعدكم مدحوشين بطي...وا؟"(ص 143). أما التاجر عارف دمشقية، حين عاتبه بدوي الفيومي، لأنه فتح محله التجاري إبّان الإغلاق فقد انفتحت قريحته بالسباب، وراح يقول: "ك... إخت إلّي قلّك، أخو شر... طة، واحد كذاب عك...ت. ها الأخوات الشر... طة بيت هاشم إلّي جنبي، هودي عكا...يت إخوات شر... طة عم يفتحوا، لو بتدبروهم" (ص191). وهناك شخص يدعى أحمد البولند، وربما لاوند، خاطب الحاج حسين العويني بالقول: "إذا ناويين على رئيس الجمهورية روحوا هاجموه، يا بتن...وا عرضوا يا بين...ك  عرضكم" (ص 208). وحين أقفل عبد الله اليافي الهاتف في وجه شخص يدعى منير العتر، قال الأخير: "سكّر الخط أخو الشر...طة، يلعن عرضو عكر...ت" (ص226). وعندما كان ريمون إدّة يدعو الوجيه إبراهيم حيدر إلى التمسك بالدستور، ردّ ابراهيم حيدر: "ك... إخت الدستور، مين ما خرقوا بعد؟ فأجابه ريمون إدّة: "إنت صرت مفتّح نص دزينة بنات في [بلدة] اللبوة. القانون ما بيسمح". فردّ إبراهيم حيدر بلؤم: "مش باللبوة، بل في بيروت" (ص441). أما رشيد شهاب الدين قائد المقاومة الشعبية في ما بعد فيقول عن حليفه عدنان الحكيم: "زب...ي، ك... إختو، عكر...ـت" (ص 464). وحتى إبراهيم قليلات الذي قتل شخصًا يدعى إيفانوف، كان يعمل مساعدًا لبروسبيار غيبارا الذي كان يدير بعض صالات القمار في منطقة الزيتونة لأنه تلكأ في دفع الأتاوة، يقول لمصباح سلام: "مين هم هالعكار...ت بيت شهاب الدين؟" (ص 482). 

الصورة
كمال جنبلاط
كمال جنبلاط (Getty)

 

نساء وشيوخ وأكراد واحتيال 

في 17/2/1956، وبحسب سجلات التنصّت، قاد الشيخ حسن خالد، مفتي الجمهورية اللبنانية في ما بعد، تظاهرة بعد صلاة الجمعة للاحتجاج على مشاركة لاعباتٍ مسلمات في مصر في إحدى المباريات بلباس الشورت. وأراد عدنان الحكيم أن ينقل هذا الاحتجاج عبر رسالةٍ في هذا الشأن إلى السفير المصري، عبد الحميد غالب، فما كان من السفير إلا أن قال له متبرّمًا: "كل هالكلام دا كلام فارغ. مش مستعد ضيّع دقيقة من وقتي في أشياء سخيفة من هذا النوع. يلّي عاجبو عاجبو، ويلّي مش عاجبو يروح ينفلق... إيه الغباوة دي والكلام السخيف". ثم جاءت الوفود المستنكرة إلى عدنان الحكيم، فما كان منه إلا أن هاتف عبد الحميد غالب قائلًا له: "بحثنا الموضوع [مع المحتجّين] ونقلت لهم كلام سعادتك، وكانوا ممنونين، واحتجاجهم كان غير مقصود". ثم حوّل الهاتف إلى الشيخ أحمد العجوز الذي راح يقول للسفير عبد الحميد غالب: "نحنا منفتخر بالحكومة المصرية، لأنها رفعت رأس الاسلام. أما الشيء الذي دعانا إلى أن نُرسل إليكم المكتوب [رسالة الاحتجاج]  فهو التمرينات الرياضية التي قامت بها البنات اللبنانيات". فأجابه عبد الحميد غالب: "هذا استعراض رياضي، ولدينا بنات متطوّعات، ويحملن سلاح. ولو كنّ لابسين شورت وهنّ حاملين السلاح ما عيب أبدًا" (ص 104 و105). غير أن حركة الاحتجاج هذه لم تكن تحظى بالإجماع البيروتي؛ فعبد الله نورالله يقول لعدنان الحكيم: "ها الجماعة يلّي عم يعملوا تلغرافات [للسفير المصري] يروحوا يشوفوا بنت النصولي بالشورت. ك... إخت عيالهم عكر...ت. أنا عندي صورة لسوسن النصولي عم تقفز ولابسة شورت. كان عشها مبيّن... ومحمد سلام قاعد عم يتفرّج عليها" (ص 106). ويلوح لي من خلال سجلات التنصت المسطورة في هذا الكتاب أن بعض النساء كان لهن شأن مهم في توصيف الأحوال. فها هي زوجة عدنان الحكيم تخاطب محمد علي الرز بقولها: شمعون أحسن من صائب سلام بألف مرة، فيجيبها الرز: 4000 قتيل حطهم [صائب سلام] برقبتو لأنو ما طلع نائب هالعكر...ت" (519). وورد اسم عايدة قباني امرأة تحاول إيقاع الفتنة بين الناس، وكثيرًا ما هدّدت بأنها ستفضح صائب سلام (ص 483).

اشتُهرت حكاية كمال جنبلاط في مجلس النواب اللبناني، حين غضب من صائب سلام، وحار كيف يشتمه، فلم يجد غير عبارة "يا حبقوق"!

يبدو أن قصص الخلاف بين كمال جنبلاط وزوجته مي أرسلان كانت شائعة. وفي هذا المجال، يسأل بيار الجميل نسيب المتنْي عن أحوال جنبلاط وزوجته، ويضيف: طبعها يختلف عن طبع جنبلاط، وعقليتها غير عقليته. فيجيبه المتْني: مش مناسبة، خليها تروح ويخلص (ص 75). أما كمال جنبلاط نفسه فأظهر توجسّه من خطةٍ يُعدّها كميل شمعون، لتزويج الأمير مجيد أرسلان إمرأة من آل جنبلاط [خولة جنبلاط]  لتوحيد العائلتين. وبناء على هذه الخطة، يترشّح صلاح جنبلاط ضد كمال جنبلاط في الشوف، ويتحمّل رشيد جنبلاط تكاليف الحملة الانتخابية (ص 89). ومن طرائف تلك الحقبة قصة تحوّل بعض الأكراد إلى المارونية لاكتساب الجنسية اللبنانية، فيخبر محمد شقير بيار الجميل إن الأكراد يحاولون الحصول على الجنسية اللبنانية منذ ثلاثين سنة، فلم يستطيعوا. وعند ذلك، ذهبوا إلى أحد الخوارنة في بلدة حراجل الكسروانية الذي راح يعمّدهم ويجعلهم موارنة، ويمنحهم أوراق عمادة. وبعد ذلك، يذهبون إلى فريد حبيب الذي يستحصل لهم على الجنسية اللبنانية فورًا، باعتبارهم موارنة. وحين يحصلون على الجنسية اللبنانية، يذهبون إلى المحكمة الشرعية السنية، ويطالبون بإعادتهم إلى الإسلام. وقال محمد شقير لبيار الجميل: عندي لائحة بنحو 300 إسم، فردّ عليه بيار الجميّل: أعطني إسمًا واحدًا. فأجابه محمد شقير: مصطفى بن محمد قاسم، ماروني يرغب في العودة إلى الإسلام. وعندما استفسر بيار الجميل من فريد حبيب عن هذا الأمر قال فريد حبيب:  القضية بسيطة، وهي حمرنة من قاضي صلح جونية. هناك عدد من الأكراد زعموا بأنهم بناديق [أبناء غير شرعيين]، وأنهم وُلدوا في منطقة جونية وتربّوا لدى الموارنة. وهؤلاء تقدّموا إلى المحكمة الروحية المارونية وبرهنوا أنهم بناديق، وأنهم وُلدوا ونشأوا لدى فلان وفلان. وعلى هذا الأساس، نالوا الجنسية اللبنانية واحتفظوا بأسمائهم (ص 108 و109). 

المال والسلطة أساس التجربة اللبنانية، وفي سبيل المال والسلطة لا تتورّع القوى السياسية المتعصبة عن اللجوء إلى العنف وفصد الدم

ومن عجائب تلك الفترة التي ما برحت تتكرّر حتى أيامنا هذه أن ميشال أبو جودة، رئيس تحرير صحيفة النهار لاحقاً، تلقى اتصالاً من أحد الصحافيين في دمشق، يستفسر عن أخبارٍ وردته عن إعلان الثورة في منطقة الهرمل، وأن نحو مئة وخمسين مسلحًا من آل جعفر وآل حمادة هاجموا ثكنة الدرك، ودامت المعركة ثلاث ساعات. وشُغل صبري حمادة بهذه الأنباء، وكان في دمشق، إلى أن تلقى هاتفًا من شخصٍ يدعى أبو عاصي قال له: ما في شي منو. هناك أشخاص من بيت زعيتر سارقين كم راس ماشية (ص147). واحتج صائب سلام على مبالغات "النهار" فقال لغسان تويني: الرشاشان تبع الزورق يلّي كمشوه في السعديات جعلتهما 700، والسبعئة رصاصة صاروا 70 ألف رصاصة، والأربعة آلاف ليرة جعلتها 100 ألف ليرة، وصاحبك شارل مالك عمل من هذه الخبرية قضية دولية (ص 215). وفي مكالمة بين كمال جنبلاط ونسيب المتني، قال الأخير: أما سخيف تماماً هيدا فؤاد [أفرام البستاني]. فردّ جنبلاط بالقول: عاملينو رئيس جامعة وما معو شهادة (ص 152). ويتحدّث نسيب المتْني عن الأديب خليل تقي الدين قائلاً: كتب كتاب "تمارا" لإرضاء الانكليز والأميركان، وقبض 50 ألف ليرة لتأليف هذا الكتاب (ص 89). 

على هذا المنوال، كانت الأحوال في لبنان في سنة 1958، أي قبل 63 سنة، وما زالت الوقائع هي هي، وما برحت تتكرّر اليوم ولو بصُور شتى، فالمال والسلطة هما أساس التجربة اللبنانية، وفي سبيل المال والسلطة لا تتورّع القوى السياسية المتعصبة عن اللجوء إلى العنف وفصد الدم.