تناقضات التلفزيون المصري

تناقضات التلفزيون المصري

11 ابريل 2022

(Getty)

+ الخط -

يبدو أن القائمين على رسم مسار الإعلام في مصر، والأوصياء على الدراما المصرية، يتعجّلون تسجيل أحداث ووقائع ما بعد 2011 وتوثيقها وفق المنظور الرسمي، لتكون الروايات الرسمية المرجعية والذاكرة التاريخية المعتمدة، على الأقل في الذاكرة الرسمية. وفي هذا الاتجاه، راهنت مؤسسات الدولة المصرية بثقلها على مسلسل "الاختيار"، ليصبح القلم الدرامي الذي يدوّن تاريخ مصر في العقد الماضي. وصاحبته مسلسلات أخرى في الاتجاه نفسه، وإن على مساراتٍ أخرى مكملة.
من بين 27 مسلسلا، إجمالي الأعمال الدرامية المعروضة على القنوات المصرية في رمضان الحالي، تتمحور أحداث أربعةٍ منها بشكل مباشر حول قضايا وموضوعات سياسية بامتياز. وتتنوّع نطاقات الأحداث في هذه المسلسلات، لتشمل الداخل المصري ("الاختيار3" و"ملف سرّي")، وكذلك الخارج ("بطلوع الروح" و"العائدون"). وعدا هذه المسلسلات، لا سياسة في تلفزيون رمضان هذا العام. أي أن "السياسة"، عند أولي الأمر في مصر، ليست سوى الإرهاب والعنف المرتبط بالضرورة بالتيارات والجماعات الإسلامية، فالمسلسلات الأربعة تركت السياسة الحقيقية في مصر، وعميت عما شهدته في السنوات الأخيرة من تحوّلات داخلية مرعبة، شملت تغوّلا أمنيا ونفوذا عسكريا وتطويعا للدستور وتجميدا للأحزاب وتسطيحا للإعلام وتعطيلا للمجتمع المدني. ولم ترَ سوى "البعبع" المتمثل في الإسلاميين جميعاً، وليس فقط "داعش" أو شبيهاته من الجماعات المسلحة، فمنحت الدراما التلفزيونية المصرية في رمضان للجماعات الإسلامية دور "الشرير" الذي يرتكب الإرهاب ويخلط الدين بالسياسة.
مقابل الدراما السياسية الموجهة، غابت الدراما الدينية والتاريخية، وركّزت الدراما الاجتماعية على مخاطبة شريحتين اجتماعيتين شديدتي التناقض والتباعد. الأولى هي الدنيا شديدة الفقر، والتي وجّهت إليها الدراما جرعة مكثفة لتعزيز (وترسيخ) صورة البطل الشعبي الشجاع، الأقرب إلى "البلطجي" الخارج على القانون، أو على الأقل الذي يحصل على حقوقه بذراعه، لا بالقانون. وتضم الشريحة الثانية علية القوم أصحاب الثروات والنفوذ، وهي أقليةٌ محدودةٌ مقارنة بعشرات الملايين من محدودي الدخل ومعدوميه، غير أن معظم مسلسلات رمضان هذا العام تُخاطب هذه الشريحة، وتركز على قضايا بعيدة عن الواقع الصعب الذي يعيشه غالبية المصريين.
والأكثر استفزازاً وتناقضاً في محتوى الدراما الرمضانية، حجم الإنفاق الباهظ غير المبرّر. إذ تصل أجور بعض الممثلين إلى عشرات الملايين من الجنيهات، بخلاف ملايين كثيرة أخرى لبقية عناصر الإنتاج التلفزيوني. بما فيها التنويهات والوثائقيات الدعائية لمشروعات الإسكان والطرق التي يجيدها الحكم الحالي.
وبينما يحتار المواطن المصري البسيط في تدبير قوت يومه وتأمين نفقاته الأساسية، ويدعو الله في شهر رمضان بالرحمة وسعة الرزق وتخفيف المعاناة، لا يعترف الإعلام بحالة التقشّف القسري التي فُرضت على المصريين جرّاء ارتفاع أسعار كل السلع والخدمات، فقد شهد التليفزيون المصري في رمضان الحالي طفرة في الإعلانات السفيهة الخاصة بالمنتجعات والتجمعات السكنية الراقية. وبعد أن كانت حتى العام الماضي قليلة العدد، محدودة الأثر الاستفزازي، صارت منتشرة في مختلف القنوات، وتثير حفيظة المشاهد عن الأسعار والمستويات التي تروّجها وتعتبرها عادية.
وتكتمل وطأة التناقض على مشاعر المشاهدين "الغلابى"، بضرباتٍ مزدوجةٍ تتقاسمها إعلانات المساكن الفخمة والسيارات الفارهة مع حملات التبرّع لمشافي أو جمع الأموال لإمداد قرى ومناطق شديدة الفقر بالخدمات الأساسية. صار التناقض واجتماع الأضداد النمط الغالب على مجريات الحياة في مصر، حيث اتّساع نطاق الفقر لدى السواد الأعظم، بالتوازي مع تراكم الغنى والثروة لدى أقلية. وليس شهر رمضان إلا نموذجاً شديد الكثافة والتركّز لطحن المصريين بين شقّي رحى ذلك التناقض الصارخ بين مصر الحقيقة ومصر الإعلام.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.