تمثال الحرية يبحث عن مسكن
كانت فرنسا في القرن التاسع عشر تحاول التوفيق بين الجمهورية والملكية، فيما كان الأميركيّون يُحيون الذكرى المئوية للاستقلال (1776). تلك هي الأجواء التي ولدت فيها فكرةُ تمثال الحرّية، هدية فرنسا الرمزية لأميركا الحرّة. إلا أن هذا التمثال لم يعنِ الشيء نفسه للجميع. كانت الولايات المتحدة عند تدشينه أرضَ عنصريةٍ وتمييزٍ ضدّ المهاجرين والنساء والأقليات. لذلك امتنعت الناشطاتُ النسويات عن حضور الاحتفال عام 1886، احتجاجاً على أن الحرية التي يُحتفى بها لا تشملهن. إلا أن القرن العشرين أسبغ على التمثال معنىً جديداً مع موجات الهجرة إلى الغرب، فأصبح رمزاً لاستقبال المهاجرين الباحثين عن حياة جديدة وعن الحلم الأميركي. هكذا اكتسب النقش المُثبّتُ على قاعدته والمُقتطف من قصيدة إيما لازاروس (1849-1887) بُعداً أيقونياً: "أعطوني جماهيركم، متعبيكم، فقراءكم المتلهّفين إلى التنفّس بحرية...".
لو قيّض لتلك السيّدة العملاقة ذات الأقدام الطينية المحبوسة داخل ذاك التمثال، أن تقرأ اليوم هذه الكلمات، لغصّت بها من دون شكّ، وهي ترى بلادها تتحوّل من أرضِ استقبالٍ للحالمين بجرعة أكسجين، إلى أرضٍ طاردةٍ للمهاجرين. وماذا تراها تفعل إزاء ذلك النائب الفرنسي، الذي تذكّر ساخراً أن بلاده تريد استرجاع هديّتها؟ لعلّها تنفض عنها معطف البرونز الأخضر، وتضع يدها في يده، وتجوب معه العالم بحثاً عن مقرّ إقامة يتحمّلها بعد أن طردت من كلّ مكان. لقد تغيّر مفهوم الحرية بشكل جذري. لم تعد محدودةً بالمسؤولية. لم تعد محكومةً بمساواة الجميع أمام القيم والقوانين. إنها اليوم حرية الأقوى في أكل الأضعف. حرية الصهيونية اليمينية العالمية وأتباعها من "متصهينة" مغارب الأرض ومشارقها، في اغتصاب الأرض واحتلال البلاد وانتزاع الثروات وابتزاز الشعوب والعبث بالقيم كلّها، والقوانين جميعها، خاصّة حين يتعلّق الأمر بفلسطين، حيث الحرية مطلقة في محاصرة الفلسطيني وسجنه ودعسه ودكّه وتهجيره وقنصه وتخييره بين القتل والإبادة. ولهذا الفهم عرّابُه: بلدُ تمثال الحرية (!) سيّدُ العالم (!) ممثّلُ معسكر الخير(!)
إلى أين يمضي تمثال الحرية إذاً؟ إلى أين تهرب السيّدة الحرية من تمثالها؟ لقد باتت مطلوبةً للعدالة في معقل معسكر الخير. إنّها "Wanted" حيّة أو ميتة في موطنها المزعوم، فما بالك بحالها في أوطان العرب. هل تبحث عن شقّة في حي اللامبالاة؟ عن فيلا مطلّة على ريفييرا النسيان؟ أم تبحث عن إنسان جديد. لقد خانتها الجغرافيا وخذلها التاريخ. الجغرافيا اليوم مزبلة لنفايات القيم، والتاريخُ محلٌّ للإيجار يحكمه باعة الكرامة بالإسمنت. وبينهما زمنٌ ينبض على وتيرة البورصة ويتكلّم لغة الخوارزميات. مع ذلك، كان ثمّة زمن ادّعى فيه الغرب أنه يسعى لشيء أسمى من نفسِه، اسمه الكونية. تلك الكونية المحلوم بها، التي كاد يصدّقها الجميع، قبل أن تُذبح على هيكل المعايير المزدوجة بأكثر سكاكين اللعبة قذارةً؛ معاداة الساميّة.
والشعوب في هذا كلّه، ألم يئن الأوان كي تُصارَح بالحقيقة؟ أليست أوّل ضحايا هذا الزلزال وأوّل المسؤولين عنه؟ أليست تحبّ أن تُصدّق أنها "عظيمة"، وأنها "قادرة"، وأنها إذا أرادت الحياة "فلا بدّ أن يستجيب القدر"؟ إلى متى تهجم مع الذئب وتتباكى مع الراعي؟ تصرخ بشفَةٍ وتصمت بشفَة؟ تفتح عيناً وتغمض أخرى؟ إلى متى تجعل من رغبتها في الحياة مبرّراً كي لا تغيّر شيئاً ممّا في نفسها، وكي تترك لأنظمتها أن تقوم بالعمل القذر عوضاً عنها؟
إلى أين تذهب سيّدة التمثال الأخضر إذاً؟ إلى بروكسل؟... يمكن تخيّلها عالقةً بين مبنيَين زجاجيَّين، تلقي خطاباً عن حرية التجارة بينما حرية الشعوب تُسحق بالقنابل. إلى سويسرا؟... لكن العملة النافقة لا تلجأ إلى ملاذ ضريبي. هل تنقل إبرة أُسطرلابها ناحية منظومة "بريكس"؟ وهل دولها أرحم بالحرية؟ كيف تخلص الحريّة من قبضة هؤلاء الوحوش؟... لم تعد تتحمّل صمتهم المُريب. لم تعد تتحمّل بكاءهم على الدلافين ودببة الباندا وإشاحة وجوههم عن الأطفال. لم تعد تتحمّل عالماً يصير فيه دمُ الغزّيين ماءً ودموعُ الصهاينة دماً أزرق. وماذا لو تُركَت لحالها، ليس رمزاً للحلم، بل تحذيراً، إصبع اتّهام، تمثالاً ملعوناً يزوره أجيال من الأطفال الذين يُعلّمون أنّ الحرية تُستحقّ يومياً، وليس عندما يستدعيها الطمع في استدراج الجمهور فحسب؟ ماذا لو تُركت الحرية لحالها، حرّةً، بلا قيود، تخترق الحدود وتجوب الآفاق، وتسكن حيث تُحترم حقّاً؟