تلك الإبادة الجماعيّة في كمبوديا

23 نوفمبر 2024
+ الخط -

كل الحقّ، ربّما، مع قارئٍ للعنوان أعلاه، قد يُسيء الظنّ في كاتبه، أنه في سَعةٍ من راحة البال، إذ يحفل بإبادةٍ منسيّةٍ، في شعب بلدٍ ناءٍ، ارتُكبت قبل نحو خمسة عقود، فيما إبادةٌ جماعيةٌ قدّام عينيْه في غزّة. ... لا بأس من أن يشتهي واحُدنا راحة البال وهناءتَه، قسطاً منهما أو أكثر، غير أن القصّة وما فيها أن فيلماً اسمُه "لقاء مع بول بوت" (2024)، أتيح لصاحب هذه الكلمات أن يشاهده في دار الأوبرا في كتارا في الدوحة، عُرض في مهرجان أجيال السينمائي، يتعلّق بمقطعٍ من الإبادة التي قضى فيها نحو مليونيْن (أو أقل أو أكثر؟) في كمبوديا، كانوا نحو ربع شعب هذا البلد، في إعداماتٍ وتجويعٍ واضطهادٍ وتعذيب، تحت حكم "الخمير الحمر" (الفلاحين الحمر)، الشمولي الشيوعي شديد القسوة، بقيادة الدكتاتور بول بوت، نحو أربع سنوات (1975 – 1979). وقد جاء مخرج هذا الفيلم الجيّد (تكفيه هذه الصفة)، الكمبودي الفرنسي، ريثي بان (1964)، في دردشةٍ مع الجمهور، بعد العرض، على تسمية الذي جرى في بلده في تلك السنوات القليلات إبادةً جماعية، وكنتُ قد قرأتُ أن والديه وبعض عائلته قضوا فيها، وأنه أنجز فيلماً سابقاً اسمُه "صورة مفقودة" (2013)، أرفع فنّياً وسينمائيا من الذي شاهدنا، وإنْ زاوجت مقاطع من هذا بين الوثائقي والسردي المتتابع في مسار حكايته، وأدخل، بفنّيةٍ مشهديةٍ ضفّرها مع وقائع الفيلم، مجسّماتٍ من الصلصال (وغيره؟) لشخوصٍ من الفيلم ومن خارجه، للتأشير على المخفيِّ من ظاهر حدّوتته (المستندة إلى كتاب لصحافية أميركية)، في مكانٍ غير معلوم في كمبوديا، وسط الناس وقريباً من الحقول، يصل إليه مثقف ماركسي (كاتب) وصحافية ومصوّر، أجانب يتحدّثون الفرنسية، بدعوةٍ من سلطات نظام بول بوت، للاطّلاع على التجربة الثورية في هذا البلد، والتي ينقطع فيها المخلصون للثورة في خدمة الشعب، بمزاولة الفلاحة وحدها. يُغيَّب المصور شديد الفضول، ويُقتل، في مختتم الفيلم، ذلك المثقف بعد لقائه (وزميلته) مع "الأخ القائد" بول بوت، ثم لقائهما منفرديْن، وقد كانا زميلي دراسة في باريس.

ليست على أهمية كبرى محكيّة الفيلم بشأن هؤلاء الثلاثة في العام 1978 في كمبوديا، وإنما مقابلاتهم بعض الناس، واستشعارهم الخوف الشديد في مجمع زراعي، يأكل أفراده الأرز المطبوخ بعد أعمالهم، الشاقّة في كثير منها، والرعب في تقاسيم وجوههم. ويجول الفيلم، مع الزوّار الثلاثة، في مناشط أخرى يزاولها كمبوديون في الريف، مثل الشغل على إنجاز لوحاتٍ عريضة يُرسم عليها "الأخ القائد" بول بوت (مبتسما)، وتعليم الأطفال أفكار الثورة ومناهضة العملاء والخونة والرأسماليين والإمبرياليين، وهذه مسمّياتٌ لم تنقطع عن آذاننا، من فرط ما سمعْنا المرافقين والمراقبين مع الصحافيين الثلاثة يقولونها.

الفيلم عن صناعة الخداع والكذب وترهيب شعبٍ محكومٍ بأن يبقى مجنّداً لتطبيق تعاليم القائد وأفكار الثورة التي لا ترى في غير الزراعة عملاً لأي مواطنٍ لم يُلحقوه بالجيش والأمن والمخابرات والبوليس. على كل الناس أن يتركوا المدن، الصامتة الموحشة الخاوية، إلى الأرياف والمجمّعات الزراعية، ليكونوا أوفياء للثورة الاشتراكية التي يُؤتمن عليها الرفاق الحاكمون في "كبموديا الديمقراطية"، البلد الذي بلا سجون، لأن لا حقّ بالحياة لمن لا يعتنق مُثُل الثورة ولا يضبط حياته على نهجها، فلا رجالَ أفضلُ من وجود رجالٍ غير مخلصين، كما سمع المثقف الماركسي من بول بوت نفسه (يؤدّي المخرج، ريثي بان، دورَه في ظهورٍ مُقتضب ومُظلّل).

يقوم الفيلم الذي ساهمت أكثر من جهةٍ في تمويله (منها مؤسّسة الدوحة للأفلام) على تداخل الحقيقيّ بالمتخيّل، على الشاعريّ الشفيف متوازياً مع الشعور بالخوف، على المزاوجة بين مشهديّات الناس من لحم ودم، الممثلين على الشاشة، وضحايا تعذيبٍ وقتلٍ وجوعٍ من وثائق فيلمية نادرة، في الأصل شحيحة جدّاً، ومشهديّات الناس في تماثيل ومجسّمات، لتحتشد إيحاءاتٌ متنوّعة الإحالات إلى غير مذبحةٍ ومقتلة، في زمن القسوة والفتك بالحياة الآدمية هناك، في كمبوديا التي ابتدع الشيوعيون، في تشكيلات "الخمير الحمر"، أعداءً من كل صنف، في الداخل والخارج، وأقاموا دولة الرعب الرهيبة، دولة القتل المحسوم حكماً على كل من تحدّثُه نفسه بسؤالٍ عن جدوى الحياة في حالٍ كهذا، يُقتل في غضونه أطفالٌ تحسّباً مما قد يعتنقون إذا كبروا.

نجح "لقاء مع بول بوت" في مرسلتِه عن إبادةٍ جماعيّةٍ هناك، في كمبوديا، في زمن مضى، أراد أن يحمي ضحاياها من النسيان ... تُرى، كم فيلماً عن إبادةٍ تُقتًرف في غزّة نشتهي أن تحمي شهداءها وجوعاها وجرحاها من النسيان؟

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.