تكنولوجيا الذكاء... الرخاء ومخاطر الفراغ
تتوالى نبوءاتٌ هي أقرب إلى الحقيقة منها إلى تحليق أفلام الخيال العلمي، رغم أن عديداً منها تحوّل في أقلّ من نصف قرن إلى حقائقَ تنتمي إلى البداهات اليومية. ها إن البشر يطيرون، وها إن الخلايا تتجدّد بلا تناسل، وها إن الكائنات المنقرضة التي اختفت منذ ملايين السنين تعود حيّةً، ولا ندري ما حجم التجارب السرّية التي قد تُذهلنا من هول ما نكتشف من مفاجآت. ما فتئت الاختراعات والاكتشافات تنزل على رؤوسنا تماماً بغزارة، وتُعلَن يومياً ملايين الحقائق العلمية في مختلف المجالات، ويظلّ بعضها الآخر ضمن الكتمان باعتباره أمناً قومياً خالصاً لبعض البلدان.
مع انتشار الذكاء الاصطناعي، واكتساحه جميع الفضاءات بلا استثناء، من اقتناء تذاكر المطاعم الشعبية إلى أرقى جزئيات الخلايا الحيوية، يتعاظم دور هذه "الكائنات"، ويتسارع الزمن. الساعة الواحدة بمعنى ما يكتشف ويخترع، تساوي بحسب التقديرات قروناً بأكملها عاشتها البشرية في حالة من الكفاف العلمي. تتعزّز هده النبوءات بعد الإشارات أخيراً، التي صدرت عن واحدٍ من "أنبياء" الذكاء الاصطناعي وصناعات تكنولوجيا الاتصال، بيل غيتس، أثناء حوار أجراه لفائدة أحد البرامج التلفزيونية، ألمح فيه إلى أنه في أقلّ من عقد من الزمن ستشتغل البشرية في حدود يومين في الأسبوع، وأن العديد من المهن ستختفي أو تتغيّر هُويَّتها وممارستها نهائياً، ويؤكّد أنها ستشمل الطبّ والتعليم والخدمات المالية والنقل... إلخ.
لا يستبعد خبراء المستقبليات أن تكون العيادات مستقبلاً بلا طبيب، أو على الأقلّ من دون الطبيب الذي عرفناه ولازم البشرية منذ أن شعر البشر بالألم والأمراض. نشأت مهنة الطبّ في صيغها القديمة، المداواة بالتنجيم والتطبيب بالأعشاب... إلخ، حتى غدت معارف وتقنيات مذهلة. سيتّجه المرضى مثلاً (في أقلّ من عقد) إلى آلات مستقلّة تكشف عنّا، تحاورنا، وتقترح لنا وصفات الدواء التي تتطابق مع حالتنا، وقد تطلب منّا أيضاً إجراء بعض الفحوصات التكميلية لدى آلة تجاورها، هي زميلة لها. حتى الصيدليات ستكون على هذا النحو، ربّما لن تكون آلات بالضرورة، بل مواقع ومنصّات وتطبيقات سهلة وغير معقّدة نتواصل معها على غرار تواصلنا مع "تشات جي بي تي" أو "ديب سيك"، أو غيرها من هذه "الكائنات الهلامية الضخمة".
حين ينهي الذكاء الاصطناعي عصر العمل قد يبدو عصر الفراغ القاتل حقيقةً فائقة الاحتمال
لن تختلف جل الأنشطة والمهن الأخرى، فحتى الحروب القاسية والمؤلمة والمدمّرة ستخوضها جيوش جبّارة، وكتائب هلامية، هي مزيج من التطبيقات الذكية والأسلحة الافتراضية، التي قد لا تطلق رصاصةً واحدةً، حتى أساليب التدمير ستتغيّر. تُذكّر العديد من المواقع، والمجلات العلمية المتخصّصة في مسائل الدفاع والحروب، أن السنوات الخمس الماضية كانت فرصةً سانحةً للدول العظمى لإجراء مئات التجارب على الأسلحة غير التقليدية. لكن، ستغدو مثلاً الطائرات المسيّرة في أقلّ من عقدين سلاحاً تقليدياً. طبعاً لا يمكن حصر التغيرات الرهيبة التي ستغيّر حياة الناس، وتشمل مجالات الحياة كلّها، وربّما الموت أيضاً. هذه الصورة ستكون مشوَّشةً (وغير دقيقة) عن حجم اللاتكافؤ الذي سيميّز هذه التطورّات، والظن أن نصيب المجتمعات لن يكون متساوياً، فالمجتمعات الغنية والمتقدمة تكنولوجياً ستستحوذ على الجزء الأكبر، فضلاً عن تمتعها بهذه الخدمات بشكل مبكّر، في حين سيظلّ حظّ البلدان الفقيرة قليلاً، حتى إن تعمّمت تلك المكتسبات لاحقاً.
غير أن هذا الرخاء سيطرح على البشرية فيضاً من المشكلات، إذ لن يترافق هذا التطوّر ضرورةً مع السعادة كما يتصوّر بعضهم، فالسيناريوهات ما زالت متضاربةً، غير أن الأمر سيكون مصحوباً بكثير من القلق الوجودي. كيف يمكن للبشرية أن تملأ الفراغات التي ستُحدثها تلك التطوّرات التكنولوجية؟... الأرجح أن الحيّز الذي ستخصّصه البشرية للعمل سيتقلّص بشكل كبير، خصوصاً في ظلّ قدرة التكنولوجيا على الإنتاج المكثّف. شرعت عديد من المجتمعات الغربية منذ عقدَين في تقليص أيّام العمل وساعاته، فبعضها وصل إلى حدّ أربعة أيّام عمل في الأسبوع، في حين تُخصَّص الأيّام الثلاثة المتبقية للترفيه. وتذهب بعض السيناريوهات إلى حدّ قلب المعادلة تلك، لتصبح ثلاثة أيّام عمل مقابل أربعة أيّام راحة، فنتقرب ممّا أشار إليه بيل غيتس عند أفق منتهى العقد الثالث من هذا القرن. وكما يخشى علماء من تلك الثقوب السوداء المطلّة على الكون، وما تخفيه من فراغات السديم الأزلي، يخشى المتخصّصون من دخول البشرية عصر الفراغ، أي ذاك الخواء الكبير الذي لا قدرة لها على ملئه، خصوصاً تلك المجتمعات الغربية، وغيرها ممّن سيدركون هذه العتبة من التقدّم التكنولوجي.
حين بدأ العِلم نزع السحر عن العالَم، وطرد الخيال وما ابتكره من سرديات كُبرى أعطت معنىً لوجود البشر، لم تكن البشرية تدرك مآلات ذلك كلّه. نحن تماماً على عتبة تشبه تحوّلات أواخر القرن التاسع عشر أو أشدّ ضراوة. الذكاء الاصطناعي وفتوحات التكنولوجيا المتخصّصة ستفتح لنا أبواب الرخاء، ولكن منافذ الفراغ المُشرعة هي أوسع من هذا الرخاء ذاته، ممّا يجعل السعادة أمراً غير محسوم حتماً. حين ينتهي عصر العمل قد يبدو عصر الفراغ القاتل حقيقةً فائقة الاحتمال.