تقرير خاشقجي .. الجهر والإخفاء

تقرير خاشقجي .. الجهر والإخفاء

07 مارس 2021
+ الخط -

سأكون، مرة واحدة في العمر، أميركيّاً، فأعلن انحيازي التام إلى تقرير استخباراتها حيال جريمة اغتيال جمال خاشقجي. أما بعكس ذلك، فسأكون خائناً مبادئ الحرية التي أؤمن بها. والحال أن ما يزيد من انحيازي إلى التقرير، تنطّح أنظمة عربية للدفاع عن قتلة خاشقجي، وإنْ حاولت أن تظهر دفاعها كأنه موقف تضامنيّ مع شقيق عربي في وجه "استهداف خارجيّ"، ولها العذر في ذلك، لكونها لا تضع فواصل بين الأوطان والحكّام، فالحاكم هو الوطن، والوطن هو الحاكم، وغالباً ما يتقدّم الحاكم على الوطن.

لم يستوقفني موقف الأنظمة كثيراً، غير أن ما أثارت دهشتي مواقف فرديّة من شخصيّات محسوبة على "الإنسان" وحقوقه، حاولت التشكيك في صحة التقرير وأهدافه، بعد أن قفزت عن دم خاشقجي، فراحت تهاجم أميركا وتقاريرها، بالأسلحة نفسها التي اعتدناها منذ قرن: "زعيمة الإمبريالية" و"رأس الحيّة"، وغيرها من شعارات ومصطلحات. ولولا عرق حياء، لاتهمت أميركا بأنها هي التي دبّرت لاغتيال خاشقجي، وألصقت التهمة برموز حكم سعودية، لتحقيق مآرب خاصة بها.

وللإنصاف، فإن تشكيك هؤلاء واتهاماتهم لا تخلو من بعض الحقائق، إذا أدركنا مرامي المصالح الأميركية جيداً، غير أن ذلك لا يطمس حقيقة أن ثمّة رجلاً استُدرج إلى قنصلية بلاده وقُتل بوحشية، وهي جريمةٌ مكتملة الأركان، لا مراء فيها ولا تشكيك، وأن دمه أصبح ديناً على كل من يؤمن بحرية الإنسان وحقوقه. أما عكس ذلك، فيعني أن كلّ من يغضّ الطرف عن أي تقريرٍ يحاول أن يكشف، ولو جانباً واحداً من اغتيال خاشقجي، هو مشارك فعليّ في الجريمة.

تمنّيت أنه لو كان المرجفون من التقرير المذكور قد أحاطوا به من جوانب أخرى، لكانوا تمهّلوا قليلاً، فهو يحمل إدانة لأميركا ذاتها التي نهاجمها الآن؛ لأنها بالقدر الذي تصنع فيه الحرية وتدافع عنها، تتحمّل وزر صنع الطغاة وحمايتهم أيضاً، تحقيقاً لمصالحها، وما جرائمهم إلا بعض نتاج هذه الحماية المسبغة عليهم أميركيّاً، التي ترفع منسوب الاستبداد في عروقهم، وتجعلهم يشعرون بأنهم يحملون تصريح قتل مفتوح ضدّ كل من يخالفهم رأياً، أو يقدّم لهم مشورة حتى، وهي رخصةٌ لا تخصّ بلداً بعينه من البلدان الغافية في حضن واشنطن، بل تنسحب على الجميع.

وفي التقرير إدانة لنا، أيضاً، نحن العرب الذين لا نفعل شيئاً غير انتظار نتائج تقارير الآخرين عن جرائمنا واستبدادنا وانتهاكاتنا الحريات والحقوق. والأمر هنا لا يقتصر على تقرير خاشقجي، بل يشمل سائر التقارير الأممية عن حياتنا العامة، وكان حريّاً بنا، قبل أن نهاجم تقاريرهم، أن نصدر نحن تقاريرنا وسردياتنا الخاصة عن مثل هذه الانتهاكات، فالقتيل عربيّ، والقاتل عربيّ، والمفروض، في مثل هذه الحالة، أن ننبري لفضح الواقعة والمناداة بالعقاب. صحيحٌ أن التقرير الأميركي لم يضف كثيراً، ولم يكشف جوانب غامضة لم نعرفها في جريمة خاشقجي، غير أننا كنا أَولى بقتيلنا منذ البداية، مع إدراكنا فرق التأثير بين تقريرين.

لا أدري ما هو الثمن الذي ستدفعه السعودية لقاء الكشف عن التقرير الأميركي في عهد بايدن، الذي أتوقع أن يفوق ثمن إخفائه في عهد ترامب، ولعلّها إحدى مفارقاتٍ لا تقل فداحةً عن الجريمة ذاتها... أعني أن يدفع الحاكم العربي ثمن صمت أميركا وجهرها، وثمن البقاء على كرسيّ السلطة، وهو ثمنٌ منتزعٌ من مقدّرات الشعوب وكدّها قبل أي شيء آخر. ثم يكتمل البؤس بدفاع ضحايا عن جلاديهم، وتبرير جرائمهم المقترفة بحقهم... كما فعلنا ونحن ننحاز إلى قتلة خاشقجي على حساب الحقيقة الأوضح من ضوء الدم.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.