تعميمات ماكرون وما نحتاجه

تعميمات ماكرون وما نحتاجه

03 نوفمبر 2020
+ الخط -

لم نفهم بعد الدوافع الحقيقية وراء موقف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المتشدّد المعلن من الإسلام عموماً، والذي عبر عنه في خطابه في لي مورو قرب باريس، في 2 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، وتغطيته في ما بعد موضوع الرسوم المسيئة التي أثارت مشاعر المسلمين في مختلف أنحاء العالم. وهنا نترك مناقشة ما جاء في مقابلته التوضيحية مع قناة الجزيرة إلى مناسبة أخرى. 

هل هو سوء في التعبير والتقدير، أم رغبة في تصعيد الموقف، والمزاودة على اليمين الفرنسي المتطرف، في سبيل تسجيل نقاط انتخابية، لم تعد أهمية حساباتها بالنسبة لمن يشكو تراجع حظوظه خافية على أحد؟ فالرجل لم يكتف بتوجيه اللوم أو الاتهام إلى جهات محددة تعلن الإسلام عقيدة أيديولوجية تجييشية، غالبا ما تكون غير متجانسة، وغير متوافقة. ولنا في التجربة السورية في السنوات الأخيرة عشرات الأمثلة من ظواهر التكفير التي تجسّدت في مواقف المجموعات المسلحة "الإسلاموية" ضد بعضها بعضا، وإنما توجه بالنقد إلى الإسلام، قائلاً: إن الإسلام في أزمة في كل أنحاء العالم.

لا نعلم ما إذا كان الرئيس يقصد الإسلام دينا، أم يقصد المجتمعات التي تعتنق أغلبية سكانها الدين الإسلامي، وهي المجتمعات التي يتم تحديدها عادة بالمجتمعات الإسلامية؟ في الحالة الأولى، لا بد من مناقشة القضية من موقع عقائدي ثيولوجي، وهذا ما يستدعي العودة إلى تاريخ الأديان والعقائد، حتى نحدد بالضبط المعني بالأزمة، وتشخيص ملامحها، وبيان كيفية معالجتها. وفي الحالة الثانية، يحتاج الموضوع إلى تحليل (ودراسة) الأنظمة السياسية التي تحكم المجتمعات المعنية، وكذلك دراسة العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وتأثيراتها الفكرية والثقافية، والتفاعلات المتبادلة في ما بينها.

الإسلام دين عالمي يعتنقه أكثر من مليار ونصف مليار إنسان من مختلف الثقافات والجنسيات والقوميات. لذلك من الإجحاف، بل من الظلم أن يُحكم عليه بجريرة مجموعة محدودة النطاق والأفق، تستخدم الدين لغايات أيديولوجية سياسية، لتحقيق مكاسب أيديولوجية، أو نفعوية، لا علاقة لها بالدين. والدين يقوم، في جوهره، على جملة عقائد إيمانية، تعتبر في منظور المؤمنين بها من الحقائق المطلقة. ولذلك، أي حديث عن وجود أزمة في هذا الدين أو ذاك سيكون من المستحيل أن يقبله المتدينون الملتزمون بمبادئ هذا الدين وتعاليمه.

فرنسا نفسها، التي يتحدّث رئيسها عن الإرهاب الإسلامي، وأزمة الإسلام، لم توافق على إدراج حزب الله، التابع مباشرة لنظام ولي الفقيه الإيراني، ضمن قائمة الحركات الإرهابية

أما إذا كان حديث الرئيس الفرنسي يشير إلى وجود أزمة في المجتمعات الإسلامية، فهذا أمر آخر. ولكن الأزمة بهذا المعنى ليست مقتصرة على هذه المجتمعات وحدها، بل هي عامة، تشمل المجتمعات جميعها، بل وتشمل أيضاً المؤسسات والمنظمات الدولية. وهي أزمة أخلاقية قيمية عميقة الجذور، تتمظهر في تحوّل المصالح العارية، على مستوى الدول والقوى المتحكّمة في اقتصاديات الدول، إلى مرجعية أساسية لتحديد المواقف التي غالباً ما تأتي في صيغة اللامبالاة، والاستعداد لعقد أي صفقةٍ طالما أنها تحقق المطلوب على صعيد الحسابات والمصالح.

ولنا في أوضاع منطقتنا خير مثال على مدى الشلل الذي أصيبت به المنظمات الدولية، خصوصا الأمم المتحدة، ومجلس الأمن على وجه التحديد الذي عجز عن اتخاذ موقفٍ صائب مما جرى، ويجري، في سورية واليمن والعراق ولبنان، وذلك بفعل تضارب المصالح والحسابات الدولية التي لا تستند إلى أي التزاماتٍ أخلاقية، أو واجبات ومبادئ إنسانية. ففرنسا نفسها، التي يتحدّث رئيسها عن الإرهاب الإسلامي، وأزمة الإسلام، لم توافق على إدراج حزب الله، التابع مباشرة لنظام ولي الفقيه الإيراني، ضمن قائمة الحركات الإرهابية، وهو الحزب الذي أرهب، ويرهب، كل فئات الشعب اللبناني، وشارك، إلى جانب نظام بشار الأسد، في قتل السوريين، وتجويعهم حتى الموت، والأمثلة الصارخة الدامغة في هذا المجال عصيّة على الحصر.

ولكن هذا لا ينفي وجود أزمة في المجتمعات الإسلامية، إن لم نقل أزمات. وأسباب هذه الأزمة متعددة، تتجلى أولاً في التبعية المطلقة التي تجمع بين غالبية أنظمة الحكم في هذه المجتمعات، فهي تابعة بهذا الشكل أو ذاك، تحكم بعقلية المتعهدين لصالح الجهات التي أوكلتها بمهام الحكم، بعد أن تخلت عن صيغة الاستعمار المباشر، فهذه القوى الدولية الكبرى باتت في عالم اليوم قادرة أكثر من أي وقت مضى على التدخل، والتحكم عبر الضغوط المختلفة. 

الحاجة ماسّة لتدخل العقلاء من أصحاب الحكمة المعهودة من سياسيين ومفكرين وإعلاميين من أجل تهدئة الأوضاع

أما السبب الآخر فهو يتمثل في إخفاق الأنظمة المعنية في عملية تأمين الحد الأدنى من ضرورات العيش الكريم للناس على مستويات التعليم والعمل والصحة والخدمات الحيوية؛ وتحكّمها، في الوقت ذاته، بحريات الناس، وقمعها أي نقد أو دعوة مطالبة بالمساءلة والمحاسبة والإصلاح. وسبب ثالث، يتشخص في وضعية الفساد الشمولي الذي بات وشماً يميّز الأنظمة المعنية. ويبقى سبب رئيس، يتجسّد في حالة التداخل ما بين الديني والسياسي في المجتمعات المعنية، وذلك مردّه حرص كثير من تلك الأنظمة على استخدام الدين لإضفاء قسط من المشروعية على ممارساتها وتوجهاتها التي لا تستند إلى أي مشروعية تقنع الناس. 

وفي المقابل، تستخدم جملة من الحركات والمجموعات المناهضة لتلك الأنظمة الدين أيديولوجية تعبوية، وحتى تكفيرية. واللافت أن الدين استخدم ليكون أداة تكفير في سياق الخلافات البينية ضمن الجماعات الإسلاموية المتطرّفة، سواء عبر الحملات الإعلامية أو من خلال المعارك الميدانية الدموية على الأرض، فالجماعات الإسلاموية المتشدّدة كانت، وما زالت، تمارس أسلوب التصفية لفرض نفسها على المنافسين، والاستئثار بالقرار وفق تخريجاتٍ تنتقي من التراث الديني أكثر جوانبه تشدّداً، ولا تراعي أبداً السياق التاريخي الاجتماعي؛ ولا تعطي أي قيمةٍ للمتغيرات التي طرأت على أوضاع الناس ومفاهيمهم، وتفاعلهم مع المجتمعات الأخرى على مدى ألف وأربعمائة عام.

أما المخرج الآمن من هذ المأزق الوجودي، فهو يتمثل في ضرورة الفصل بين الدولة/ السياسة والدين، الأمر الذي من شأنه قطع الأنظمة، والحركات المتشدّدة في الوقت ذاته، الطريق على استغلال الدين، لتصبح الحدود واضحةً بين وقائع السياسة النسبية المتغيرة وفق المصالح والظروف والمستجدّات، والقناعات الدينية الإيمانية التي تعد في منظور معتنقيها حقائق مطلقة. ولعله من نافل القول هنا أن نبين أن الفصل المطلوب هذا لا يقلل من شأن الدين ضمن المجتمع، ولا يمنع حرية العقيدة بالنسبة إلى الأفراد، وإنما هو يهدف إلى تأكيد مبدأ حيادية الدولة التي تكون حاميةً لجميع مواطنيها، تضمن حقوقهم جميعاً من دون تمييز أو إبعاد مقابل التزامهم بواجباتهم تجاه الدولة. 

فشل سياسات الاندماج في دول أوروبية عديدة لأسباب كثيرة، منها عدم التبصر بالعواقب، والإجراءات المستعجلة المتشدّدة، والجهل بطبيعة الثقافات وحيوية الهويات

أما المصطلح الذي يمكن اعتماده لتوصيف هذه العملية فليس هو المهم، وإنما المضمون هو المهم الأهم. هذه مسألة لا بد أن تُحسم، ولا يمكن التغطية عليها بجمل إنشائية مجاملاتية، تُستخدم في إطار مناسباتٍ عامة، يعود المشاركون فيها فور انتهاء الفعاليات إلى مواقعهم ومواقفهم الإشكالية. وأمر كهذا لن يحل عبر اجتهادات بعض الأشخاص هنا وهناك، بل يحتاج إلى جهد جماعي متكامل، تقوم به دول إسلامية وازنة، تضع النقاط على الحروف، يعاونها في ذلك جمع كبير من العلماء والمفكرين والمختصين، ممن يمتلكون المصداقية والأهلية، فهذه الدول إذا ما استخدمت نفوذها المعنوي والمادي لحل هذا الإشكال خارج نطاق الصراعات والمنافسات البينية التي باتت أرضيةً خصبةً لانتعاش الجماعات المنتفعة التي تزاود في ميدان الدين وتستغله، وهي جماعات أنهكت الدين والعباد. وخطوة من هذا القبيل ستجد دعماً كبيراً من المفكرين والباحثين الجادين، خصوصا من المتدينين المنسجمين مع ذواتهم، هؤلاء الذين يعيشون الواقع المر، ويعرفون المخرج، ولكنهم في ظل الوضعية اللاعقلانية الشمولية التي نعيشها راهناً لا يمتلكون الأدوات التي تمكنهم من إنقاذ مجتمعاتهم من الغرق.

أما أوروبياً، فلا بد من الإقرار بفشل سياسات الاندماج في دول أوروبية عديدة لأسباب كثيرة، منها عدم التبصر بالعواقب، والإجراءات المستعجلة المتشدّدة، والجهل بطبيعة الثقافات وحيوية الهويات، خصوصا في زمن الاستقطاب. ويُضاف إلى ذلك الأحكام المسبقة التي غالباً ما لا تميز، عن وعي أو من دونه، بين سلوكيات (ومواقف) الأفراد والطابع العام للجماعات التي ينتمون إليها، فإذا اقترف مهاجر جريمة فهي تُنسب إلى المهاجرين عموماً في غالب الأحيان؛ أو إلى المسلمين إذا كان الفاعل مسلماً. 

حالة مرعبة من اختلاط التوتر والتعصب واللاعقلانية، خصوصاً بعد جرائم مدانة تعرض لها مواطنون فرنسيون

ومن الواضح أن هذا التوجه اللاعقلاني الشعبوي في التعامل مع موضوعٍ حسّاس من جانب بعض وسائل الإعلام الغربية، وحتى من بعض السياسيين، يأخذ بالاعتبار الحسابات الانتخابية، وسياسات الخصوم المنافسين. وهو توجه قصير النظر بطبيعة الحال، ولا يراعي المصالح الحقيقية للمجتمع على المدى البعيد. وإنما هو توجه مصلحي نفعي، يستهدف المصالح الآنية، ولا يراعي مشاعر المستهدفين من دون وجه حق، والانعكاسات السلبية التي ستترتب على مواقفهم. وهذا ما ينطبق على الحالة الفرنسية التي تصرّفت السلطات فيها بعقلية انفعالية استعراضية، فبدلاً من أن تعالج الموقف بحكمة، أصرّت على نشر الرسوم المسيئة، وهي تدرك أن ذلك سيثير ردود الأفعال، وسيكون مادةً لاستغلال المتطرّفين على الضفتين.

ولم تحاول السلطات المعنية الاستفادة من تجارب الدول الأوروبية الأخرى في هذا المجال، ومنها تجربة كل من بريطانيا والسويد. وتجاهلت السلطات ذاتها حكماً واضحاً اتخذته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، نص صراحة على أن الإساءة للعقائد لا تدخل ضمن باب حرية التعبير.

نواجه راهناً حالة مرعبة من اختلاط التوتر والتعصب واللاعقلانية، خصوصا بعد الجرائم المدانة التي تعرض لها مواطنون فرنسيون عديدون. لذلك فالحاجة ماسّة لتدخل العقلاء من أصحاب الحكمة المعهودة من سياسيين ومفكرين وإعلاميين من أجل تهدئة الأوضاع، وسحب بواعث الشحن وصواعق التفجير؛ لتصبح الأرضية مهيأة لمناقشاتٍ عقلانيةٍ هادئةٍ بين الجميع، بهدف التوصل إلى توافقات مستدامة تكون في مصلحة أجيالنا المقبلة على جانبي المتوسط.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا