تعقيباً على "ما بعد النظام الرسمي العربي"

تعقيباً على "ما بعد النظام الرسمي العربي"

14 فبراير 2022

(صادق أمين خوجة)

+ الخط -

عنوان مقالة الكاتب حلمي الأسمر "ما بعد النظام الرسمي العربي" في "العربي الجديد"، الخميس الماضي (10/2/2022)، سوداوي، حقّا، لكنّه واصفٌ حالة النّظام الرّسمي العربي بسماته الحالية، ومؤذن بموته وليس ضعفه أو استكانته، إلى حين. وكنت على وشك كتابة مقالةٍ في هذا الشّأن، لكنني ترددت قبل أن يدفعني الأسمر إلى كتابة هذا التّعقيب الذي سيرتكز، بكلّ أسف، على زعمين هما بحجم مسلّمتين، في مضمونهما. يشير الأوّل منهما إلى رمزية اجتماع الجسم العربي الشّعبي حول الطفل ريان، ونسيانه كل مآسيه ويومياته التعيسة، في حين يحمل الزعم الثاني الإشارة إلى استحالة التئام النظام الرسمي العربي، مرة أخرى، وبالتالي موته الرّسمي، لأسباب تذكر هذه المقالة تاليا بعضا منها.
بدايةً، رحم الله الطفل ريان وأسكنه فسيح جناته التي ستعوضه وتعوّضنا، حتما، عن فساد السياسة العامة، في طول الأرض العربية وعرضها، وعجزها عن توفير البنى التحتية اللائقة بالعيش الكريم، ما يضطرّ الساكنة إلى استخدام الطرق البدائية للحصول على الماء، السير إلى المدارس، أو حتى الحصول على سرير أو إمكانية زيارة طبيب والحصول على الاستشفاء.
هي حقيقة لا يمكن التغاضي عن حجم تأثيرها على المواطن العربي الذي يعيش في ظل القصور والنقص الكاملين لكل الخدمات. وهذا ليس انتقادا للسياسة العامة، ولا نكران أنها تقدّم بعضا من الأشياء، لكن الحديث، هنا، عن منظومة متكاملة، وليس انشطارية للخدمات تترابط، بصفة تعاضدية، لتجعل من حياة المواطن كريمة، وأي قصور أو نقصان يجعل منها جحيما ويدفعه إلى اللجوء إلى الحيل البدائية يقصد تعويض ذلك كله مما يمكّن، بعدها، من وقوع تلك المشكلات العويصة، على غرار ما حدث للطفل المغربي، عندما سقط في بئر في القرن الواحد والعشرين هي بمثابة حفرة، بعد أن كنّا نسمع أن سيدنا يوسف، عليه السلام، تم رميه في جبٍّ يحمل معنى البئر التي خرج منها سالما، لأنها كانت بئرا منجزة بمعايير السلامة، في ذلك الزمن الغابر، وكأن العالم العربي ما زال بعيدا حتى عن تلك الأزمنة التي لم تكن تعرف التكنولوجيا والبنى التحتية لإيصال الماء الشّروب إلى الساكنة، بكل معايير السلامة المطلوبة.

مات النظام الرسمي العربي مؤسّسياً، إلى الأبد، من خلال جامعة الدول العربية التي أصبحت تمثل، حقّ التمثيل، صورة تلك الوفاة الرسمية

ليلاحظ الأخوة في المغرب أنني لم أشر، من بعيد أو قريب، إلى المكان الذي وقعت فيه الحادثة، لأننا في الهم، كلنا، شرق، كما يُقال. وعلى الرغم من أن قلوبنا كانت كلها حرقة على مصير ريان، إلا أننا نعلم، تمام العلم، أنّ آلافا من أمثاله يعانون في سورية، اليمن، العراق، وفي بلدان عربية أخرى، بسب الصراعات أو السياسات العامّة القاصرة التي أضحت، في قصورها، أعمق وأكثر إيلاما من الحروب والصّراعات، في حجم التداعيات الاجتماعية على المواطن العربي.
ما يريد كاتب هذه السطور الوصول إليه، هنا، رمزية اجتماع قلوب العرب، على المستوى الشعبي، على مصير الطفل ريان، وهي الرمزية التي تعلن أن العالم العربي يعيش بجسمين، أحدهما غير رسمي، هو الجسم الشعبي الذي لا تزعزعه الخلافات، ولا الصراعات بين البنى الرسمية العربية، كما لا تعمل الوسائل الافتراضية، بكل ذبابها الإلكتروني أو تصعيد ترندات كلها كراهية ومشاعر سيئة من العرب تجاه عرب آخرين، في المشرق أو المغرب العربيين، على تقويض تلك المحبة والود الذي تجده مغروسا في القلوب، وتعبّر المشاعر عنه، على الرّغم من كلّ تلك المتاعب والتعويل على وسائل الإعلام، لإشهار موقف ما أو إيقاظ كراهية ما من هذه الجهة أو تلك، بسبب كرةٍ أو كلمة تقال، هنا أو هناك، على وسائل التواصل الاجتماعي، ذلك أن المشاعر الحقيقية عميقة في وجدان العربي، ولا تغيّر مضمونها التكنولوجيا ولا السياسة. أمّا الجسم الآخر، فهو النّظام الرّسمي العربي الذي يجب الوقوف، الآن، على حقيقته لتشخيص حالته، وصولا إلى الحديث عن الزّعم الآخر المعلن والمؤذن، بكلّ أسف، أنّه قد مات في وجدان صانع القرار، كما يكون قد مات مؤسّسيا، إلى الأبد، من خلال جامعة الدول العربية التي أصبحت تمثل، حقّ التمثيل، صورة تلك الوفاة الرّسمية.

النظام الرسمي العربي يعيش تناقضات عميقة زادها عمقا الوضع المتولّد عن ربيع عربي بات، الآن، كابوسا بتداعياته وحالة التطبيع

لماذا، قبل تبيان الحقائق التي تؤكّد ما سبق تقريره، الأسف على النظام الرسمي العربي، وهو لم يقدّم، يوما ما، للأمة العربية ما يمكن اعتباره تمثيلا لمصالحها ووجودها كأمة، في العالم؟ الجواب أن النظام الرسمي، بكل نقائصه وقصوره، كان يمثل جسما موجودا ومؤسسة تعمل كان يمكن، من خلالهما، الإبقاء على إدراك لدى المواطن العربي وصانع القرار، على حد سواء، بأن ثمّة ما يجمع، ولو على مستوى القضية المحورية (فلسطين) والصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني وما يمثله من خطر على الأمّة.
بالنسبة للحقائق التي تستدعي الزعم بموت النظام الرسمي العربي فهي طبيعة الخلافات في بنية النظام الإقليمي العربي التي كانت، من قبل، خلافات يمكن القبول بها بين طبيعة الأنظمة وطبيعة النماذج الاقتصادية المنتهجة، حيث كان، بالإمكان، في القمم العربية، وعبر القنوات الدبلوماسية، تقليص الفجوات والتقريب بين وجهات النظر، لأن القضايا المحورية كانت من المجمع عليها، وهي القضية الفلسطينية والأمن القومي العربي باعتبارهما خطّين أحمرين، لا يمكن تخطيهما من أي كان، بل كانت هي خط الرجعة لإصلاح ذات البين بين العرب، مشرقا ومغربا، جمهوريات، ممالك وإمارات. أمّا الآن، فإنّ النظام الرسمي العربي يعيش تناقضات عميقة تحول دون إمكانية اجتماع الكلمة، زادها عمقا الوضع المتولّد عن ربيع عربي بات، الآن، كابوسا عربيا بتداعياته وحالة التطبيع مع الكيان الصهيوني التي أضحت حالة القطيعة داخل النظام العربي، وترمي به نحو الإعلان الرسمي عن موته، بعيدا عن إمكاناتٍ، ولو دبلوماسية لبقة، للبقاء عليه حيا سريريا.

تناقضات تتعمق بسبب التعنّت في الإبقاء على قضيتين محوريتين هما من دون إصلاح، على الرغم من طلباتٍ تقدّمت بها أكثر من دولة، منذ عقود

تضغط تلك التناقضات على النظام الرسمي العربي، لتمنع التئام الجسم الرسمي العربي في قمة أو اجتماع، ولعل اجتماع وزراء الخارجية العرب، أخيرا، في الكويت، يكون هو الأخير رسميا تحت مظلة جامعة الدول العربية، لأنّ ما يرجئ انعقاد القمة، في الجزائر، هو، في الحقيقة، تلك التناقضات واستحالة الاجتماع على أية قضية، بما أنّ المحوري منها بات في زمن كان، وفلسطين لم تعد القضية الجامعة بين العرب، ولا القدس، بكلّ أسف.
من البديهي القول، هنا، إن تلك التناقضات تتعمق، أيضا، بسبب التعنّت في الإبقاء على قضيتين محوريتين هما من دون إصلاح، على الرغم من طلباتٍ تقدّمت بها أكثر من دولة، منذ عقود، وهما منصب الأمين العام الذّي يجب أن يكون دوريا بين الدول العربية ونظام التصويت بالإجماع الذي يناقض المعنى الحقيقي للتّسوية والسياسة، بلغة المفاوضات، من حيث إنهما فن الممكن، أو، قانون، لا نخرج لهما إلا الأغلبية وليس الإجماع.
هذه هي الأسباب التي تمنع بل تضغط في اتجاه إرجاء انعقاد القمة العربية، امتناعه أو استحالته، إلى غاية الوصول إلى حلّ المعضل منها، وهي، كما نرى، ليست هينة، ولا يمكن الاعتقاد بإمكانية تجاوزها.
بالنتيجة، ريان، رحمه الله، والتناقضات العميقة التي هي بحجم تناقضات النظام الرأسمالي بالمعنى الماركسي لها، في كتابات ماركس، تحوّلان النظام الرسمي العربي إلى معضلةٍ قد تكون شبيهة، الآن، في الوقت الحالي، بمعضلة تلاؤم الديمقراطية مع الثقافة السياسية العربية، ذلك أن تلك التناقضات لا تتلاءم، ألبتة، مع محورية قضية فلسطين، كما أن حالة ريان لم تكن لتتلاءم مع قصور السياسة العامة، على الأصعدة كافة.