تسويق الخسارة
تنعقد الدورة 39 لمعرض تونس الدولي للكتاب من 25 إبريل/ نيسان إلى 4 مايو/ أيار 2025. وليس صعباً على المتجوّل بين الأروقة، خاصّة قبل توافد الزوّار إلى الأجنحة، أن يلحظ كثرةَ المتطلّعين إلى كُتُبٍ بعينِها، بعضُها تعلّقت بصاحبه فضيحةٌ مثل الفرنسيّ برنار هنري ليفي (1948)، وبعضها توفّي صاحبه أخيراً مثل البيروفيّ ماريو بارغاس يوسّا (1936-2025)، ولعلّها فرصة للتوقّف عند دور الضجّة والغياب في تصنيع القيمة.
يعمل الكاتب العربيّ، مع استثناءات معدودة، في مناخ شديد الوطأة، ولا يخرج من الظلّ إلّا في ما نَدَر، ولا يُتاح له الخروج غالباً إلّا في حالتَين لا ثالث لهما: فضيحة مدوّية أو موت مفاجئ. معجزتان تقومان مقام إدارةِ التسويق. يكفي أن ينفجر الخبر أو أن ينقطع النفس، حتى تتحوّل مؤلّفات الكاتب، سواء كانت أعمالاً تخييليّة أو تأمّلات فكريّة أو حتى كتب طبخ، إلى كائنات حيّةٍ تهاجم واجهات المكتبات، ما إن يرتفع الـ "Buzz" من حول كاتبٍ وما إن يُذاع خبرُ وفاةِ آخَر، حتى تضطرب بورصة الكتب، وتخرج الأعمال المنسيّة من رفوفها المُغبَرّة، وتُمسَح بكُمّ القميص إذا لزم الأمر.
الفضيحة المقصودة ليست تلك التي رأينا نماذجها منذ سقراط وديوجين، التي تهزّ مجتمعاً متكلّساً أو تُعرّي حقائق محجوبة. كلُّ إبداع تخييليّ أو علميّ هو فضيحةٌ من هذا المنظور. الفضيحة المقصودة هنا لا تتعدّى القراءة السطحيّة لفعلٍ ناشزٍ، حقيقيّ أو مُتَخيّل، يُنسب إلى الكاتب بُغيةَ التشهير به. الفضيحةُ بهذا المعنى أكبرُ منشّطٍ عربيٍّ للكتابة. ما إن يرتكب الكاتبُ خطأ أو ما يُعتبر خطأ، من أيّ نوع كان، حتى ينقضّ عليه زملاء كثرٌ كانوا متشاغلين عمّا يكتب، فإذا هم يملكون فجأةً ما يكفي من الوقت والشماتة كي يتكالبوا عليه، متفانين في استخدام "انحرافه" حجّةً على استقامتهم، واستغلال "خطئه" أمارةً على صوابهم، واستعمال "جهله" دليلاً على معرفتهم.
أمّا الموت فهو أكبر مختصّ تجميل وأفضل من يَجُبُّ الذنوب ويلتمس الأعذار. مات يُوسّا على سبيل المثال فنسي الجميع أنّه كان كاتباً مثيراً للجدل. لقد امتزجت سيرته بمؤلفاته، وأبدع في تصوير الديكتاتور الأميركي اللاتيني وفضح آليّات الصراع بين القاهر والمقهور. ومن حقّ قارئه أن يفهم لماذا أصبحت الهمجيّةُ تثيره لدى كاسترو وشافيز بينما لا يثيره أن يُقتل هنود أمازون البيرو من أجل التفريط في أراضيهم لرؤوس الأموال متعدّدة الجنسيّات!. وممّا لا يُنسى في هذا الصدد خصومته مع عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (1930-2002)، حين ظهر بورديو مدافعاً عن عولمة إيجابية تحترم التنوّع الثقافيّ بينما بدا يوسّا مدافعاً عن عولمة كاسرة في خدمة النموذج الثقافي الواحد، الأميركي طبعاً! هل يكفي أن يموت الكاتب كي نشيح عن سماته الخلافيّة، مزيّنين الطاولة فجأة بعبارات من قبيل "الطبعة الأخيرة للراحل العظيم"؟
لا مناص طبعاً من بعض الغمز واللمز بعد الفضيحة وبعد الموت. إضافةً إلى "معلومات تُنشر أوّل مرّة"، بغاية الإثارة المحضة وإسالة أنهار من الحبر. ذلك كله جميل! يبتسم الناشر. ينتشي مدير التسويق. أما النقّاد، فيكتبون عنك كأنهم يكتبون عن المعنى العميق في عملٍ صوفيٍّ مُعقّد. يقولون، من دون أن يرفّ لهم جفن: "كان هذا الاضطراب في حياته ضرورياً لإنتاج كتابه العظيم"، حتى لو كان عملك كُتيّباً عن فوائد الصمغ العربي في سدّ الأذن العربيّة.
الحقّ أن الفضيحة والموت على تواشج عميق. الموت أكثر أنواع الفضيحة صدقاً. يتصدّر عملُ الكاتب المفضوح أو الراحلِ قوائمَ أكثر الكُتب مبيعاً، ليس لأنّه جيّد، بل لأنه مكتوبٌ بحبر نهائيّ. الفضيحة والموت وجهان لعملة واحدة من ناحية الوجود ومن جهة السوق: كلاهما نهاية وبداية. الفضيحة تُعرّي الكاتب حيّاً والموت يُعرّيه وهو بارد. الفضيحة إعلان والموت حملة ترويجية، والكاتب مجرّد ذريعة لما يحدُث بعد الكِتاب. معاً يضعانه على طاولة العرض، ومعاً يشرعان في بيعه والانتفاع منه. وسواء تعلّق الأمر بالساحات الثقافيّة أو بالمجتمعات، فإنّ الوضع يقترب من القتل المتوحّش لكلّ قيمة، إذ ينظر القاتل إلى نفسه باعتباره مستثمراً في لا إنسانيّة الإنسان. بالفضيحة على صعيد الرمز، وبالموت على صعيد الجسد، يجري تدويرُ الاسم والاستثمارُ في تدويره، والتكسّبُ منه، حتى لكأنّ الأمرَ ضربٌ من ضروب تسويق الخسارة.