تسقط الانقلابات والثورات المضادّة

تسقط الانقلابات والثورات المضادّة

06 اغسطس 2021
+ الخط -

أنجز الرئيس التونسي قيس سعيّد، ليلة الأحد/ الاثنين، 25 و26 يوليو/ تموز 2021، انقلابه، فأطاح رئيس الحكومة هشام المشيشي، والحكومة، وجمّد نشاط مجلس النواب ورئيسه راشد الغنوشي، دفعة واحدة، ونصّب نفسه، وبما لا يطاوله أدنى شك، الحاكم الفعلي والأوحد للبلاد، بالاستناد إلى مواد دستورية يدور الخلاف حاليا على كيفية تفسيرها.

وقد انتهز الرئيس سعيد الفرصة، بعدما امتدت حركات الاحتجاج الشعبية التي شهدتها مناطق تونسية كثيرة، على خلفية الأزمة الصحية التي تطيح البلاد بسبب تفشّي فيروس كورونا، في حين أن الأحزاب مشغولة بالصراع على السلطة، فمن ناحيةٍ هناك حزب النهضة الإسلامي ورئيس البرلمان، بالإضافة إلى رئيس الحكومة. ومن جهة ثانية، هناك رئيس الجمهورية الذي سيتولى السلطة التنفيذية بنفسه، بمعاونة حكومةٍ يعيّن رئيسها بنفسه أيضًا، متمسّحًا بشعار "تصحيح مسار الثورة".

يذكّر الأمر، وللوهلة الأولى، بما قام به الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حين أنجز انقلابه، بمؤازرة العسكر، على الرئيس محمد مرسي (الإخوان المسلمين) عام 2013، بعدما جاء مرسي بإرادة شعبية، كانت قد بدأت تتآكل عشية الانقلاب، بعد أن كان قد ربط كل السلطات بيده، وهيمن بحزبه وبممارساته على الحياة السياسية بالطول وبالعرض، فما كان من النظام السابق، وعموده الفقري الجيش، إلا أن انتهز الفرصة وأعاد وضع يده، وبسط سيطرته وسلطته على البلاد، بما يعني إعلانه الثورة المضادّة بكل معنى الكلمة، فأعاد الحال إلى ما كان عليه قبل "الثورة" المصرية أيام حسني مبارك.

يسارع بعض القومويين العرب والعسكريين والممانعين، الذين يُظهرون خلافًا تاريخيًا مع جماعة الإخوان المسلمين، لكنهم يتمتعون بخصالهم، إلى تبرير هذا النوع من الحركات السياسية الانقلابية، انطلاقًا من موقف أيديولوجي وسلوكي من حكم حركات الإسلام السياسي عمومًا، ومن "الإخوان" خصوصًا. لا بل يذهبون إلى أبعد من ذلك، فيضعون كل من يرفض الانقلاب في خانة قبوله ودفاعه عن هذه الجماعات، وعن حكمها وأيديولوجيتها، بما يتماهى مع منطق الأنظمة العسكرية والقوموية والديكتاتورية تمامًا، متناسين أن الدفاع هو في الحقيقة عن الديمقراطية، عن ممارسة الناس السياسية وتحملها مسؤولية خياراتها، والانتفاض من ثمّ، إذا ما لزم الأمر، مرّة جديدة، لا بل مرّات جديدة عليها، بغية الوصول إلى نظامٍ يمكن معه محاكمة كل الحكم، والطبقة الحاكمة في الصناديق، وبكل سلمية، على سبيل المثال لا الحصر.

انتفاضات الربيع العربي، وثوراته، كانت بوابة، كانت مسارًا فتح باب إعادة تأسيس الفعل السياسي، وهذا المسار من إعادة التأسيس ما زال مستمرًا

هي هنا بالتحديد المسألة: أن تأتي بنظام حكم يسمح لك بإطاحة أي حاكم بأقل الخسائر الممكنة، ومن دون إراقة الدماء. وهو أمرٌ مبدئي، بطبيعة الحال، سلوك ديمقراطي لا يمكن أن ينطبق على رؤساء انتهزوا، في لحظةٍ تاريخيةٍ، فرصة رفض الشعب ما هو قائم، أو لجزئية مما هو قائم، فأتمّوا وضع يدهم واستحكموا بالبلاد، بأكملها، استنادًا إلى ولاء القوى المسلحة. أي أن الديمقراطية التي نفتقدها في بلداننا لا يمكن أن تكون بإلغاء مبدأ فصل السلطات وتكثيف كل مصادر السلطة، ومستوياتها، في يد واحدة، هي يد الرئيس، ولو كان قائدًا ثوريًا، فهذه هي الطريق السريع المؤدي إلى الدكتاتورية، وإعادة الساعة السياسية إلى الوراء، إلى نظام رجعي أبوي يرفض الديمقراطية بدايةً، ويرفض أي رأي مخالف ختامًا.

لربما من الممكن تفهّم خطوة استثنائية كهذه في أنظمة ديمقراطية تاريخيًا، خصوصًا عندما لا يكون هناك تاريخ من هيمنة العسكر والدكتاتوريات والانقلابات على مشهد الحياة السياسية. لكنه من غير المقبول حتمًا، ومن غير الممكن الركون إليه في بلاد تسيطر على تاريخها، لا بل تُختزل الحياة السياسية فيها في هذه الحركات الانقلابية والعسكرية، والتي أوصلت الحياة إلى هذا المستوى من الانهيارات، ومن الترهل على المستويات السياسية والاقتصادية، وصولًا إلى الحالة النفسية للمواطنين.

ختامًا، ليس خافيًا على أحد أن انتفاضات الربيع العربي، وثوراته، كانت بوابة، كانت مسارًا فتح باب إعادة تأسيس الفعل السياسي، وهذا المسار من إعادة التأسيس ما زال مستمرًا، من تونس إلى سورية والبحرين ومصر وليبيا واليمن والجزائر .. إلخ، وصولًا إلى لبنان، هذا التأسيس للسياسة الذي لا بد أن يكون عملًا ثوريًا من المرجّح أن يطيح الإسلام السياسي، والدكتاتوريات، والعسكر، والنزعات الشوفينية.

باسل. ف. صالح
باسل. ف. صالح
كاتب لبناني، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية