تستطيع السعودية قول لا
بفرار الرئيس السوري المخلوع بشّار الأسد، في الثامن من ديسمبر (2024)، ربحت السعودية ورقةً ثانيةً، أضافتها إلى "تحييد" حزب الله واغتيال أمينه العام حسن نصر الله، فثمّة جبهتان أماميتان لإيران أُخليَتا، ما يعني إضعافهما، وإقامة سدود في وجه تمدّدهما ونفوذهما، اللذين كانا آخذين في الازدياد والتجذّر، في لبنان وسورية والعراق واليمن، فما الذي يمكن أن تخشاه الرياض الآن، ويكون نقطةَ ضعفها أمام الإدارة الأميركية الحالية؟
عملياً، تجاوز ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أزمةَ انتقال السلطة في بلاده، وتجاوز والمنطقة الأزمة الخليجية، وأصبحت قضية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول وراء ظهر الجميع في المنطقة، ولم تعد مسألةً تُعنى بها حتى المنظمات الأهلية أو تلك التي تختصّ بشؤون الإعلام في العالم، وحتى إيران لم تعد تستحوذ على المكانة نفسها في السياسة السعودية، كما كان شأنها في حقبة مضت، فهي الآن أضعف ممّا كانت عليه في مارس/ آذار 2023، حين أعاد البلدَان علاقاتهما الدبلوماسية، ما يعني تحييد خطر الحوثيين (نظرياً على الأقلّ)، وتفكيك بؤر توتّر كانت تعوق الأداء السعودي، وتُضعفه، وتجعله أكثرَ حاجةٍ إلى واشنطن من حاجة الأخيرة إليه.
عاد ترامب أقوى ممّا كان في ولايته الأولى، لكن داخلياً فقط، أمّا خارجياً فيبدو أن نزعاته الانعزالية، وأوهامه المتضخّمة عن حاجة الآخرين إليه تدفعه إلى التحايل على ضعفه هذا بالسعي إلى مراكمة أسباب القوة، لا بإنشاء التحالفات وقيادتها، بل بإضعاف الحلفاء وابتزازهم، رغم أن حاجته إليهم أكبر من حاجتهم إليه، من أوروبا وكندا إلى السعودية واليابان، ما يزيد من عزلة بلاده ويضعفها، فمنذ وصوله إلى البيت الأبيض قلب المعادلات السياسية القارّة في العالم رأساً على عقب، فلم يعد ما يهدّد دولةً مثل الدنمارك قادماً من روسيا مثلاً، بل من واشنطن، ولم يعد ما يستفزّ المستشار الألماني ذا صلة بغطرسة بوتين، بل بترامب المندفع بقبضةٍ يلوّح بها في وجوه الآخرين، فماذا لو لم نزد إنفاقنا العسكري؟ هل سنجد الجنود الروس بزجاجات الفودكا في الباحات الخلفية لبيوتنا؟
يختلف وضع السعودية الحالي كثيراً، فما يجمعها بموسكو كبير، خاصّة فيما يتعلّق بأسعار النفط، وما يبعدها من واشنطن يتزايد لو احتكمت لميزان المصالح، خاصّة أنها لم تعد مُهدَّدةً لا من إيران ولا من الحوثيين، ولا حتى من كيم جونغ أون، والأخير استطاع تحسين شروطه التفاوضية مع واشنطن، وتحديداً مع ترامب في ولايته الأولى، عندما ردّ عليه التهديد بمثله، ما دفع ترامب في نهاية المطاف إلى الإعلان عن الإعجاب الشخصي به، علماً أن كوريا الشمالية لا تتمتع بمزايا السعودية في علاقاتها الدولية، ناهيك عن ثرواتها، فممّ يمكن أن تخشى الرياض لو قالت لا لمشاريع ترامب في المنطقة، وخاصّة تلك التي يُراد إنفاذها من خلال السعودية.
يريد ترامب من السعودية مزيداً من المليارات، وإقامة علاقات مع إسرائيل بسقوف أخفض ممّا يفترض أن تقبله الرياض، ويريد إلحاقها أكثر بالقطار الذي يقوده من دون أن تتساءل عن وجهته النهائية، وهي ليست مضطرّة لذلك، وإهدار ثرواتها ومكانتها الرمزية الرفيعه جدّاً في العالمين العربي والإسلامي لمُجرَّد إرضاء رئيسٍ يلوّح بقبضته في وجوه الجميع.
ليست السعودية مضطرّة إلا لما يتوافق وأجندتها، ويخدم مصالحها، ويحافظ على مكانتها ويعزّزها، وذلك ما فعلته في ولاية بايدن السابقة، ما دفع الرئيس السابق الذي وصل إلى البيت الأبيض بأجندة معادية للسعودية وولي عهدها إلى التودّد لها وله، فثمّة تحدّياتٌ تواجه الولايات المتحدة تُلجِئها لإرضاء الرياض وبقية دول المنطقة، ولو في الحدّ الأدنى، والاستجابة لبعض شروطها، ومنها أن تقوم العلاقات معها على مراعاة المصالح الثنائية والاحترام، حتى على صعيد التعليقات الارتجالية لترامب.
ومن ذلك أيضاً، عدم تمرير أيّ حلول تتعلّق بالقضية الفلسطينية، من خلال الرياض، لا تستجيب للحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية، خاصّة إذا كان الثمن يتعلّق بمكانة السعودية ورمزيتها، وعلى حساب الدم الفلسطيني، وهو ما وسم الأداء السعودي الرافض أيّ تنازلات خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة، فهل غزت واشنطن السعودية ردّاً على ذلك؟... على العكس، اُضطرّت لمراعاة مصالح الرياض ومكانتها قبل تقديم أيّ اقتراح لها يتعلّق بالشأن الفلسطيني، أو أسعار النفط وسواها من قضايا.