تزييف الوعي

30 مارس 2025
+ الخط -

حين اندلعت حركة الشبيبة والطلبة في فرنسا والبلدان الأوروبيّة الأخرى في ستينيات القرن الماضي، كانت نُظم التعليم الجامعي والتعليم العام أحد مواضع نقد هذه الشبيبة، وأحد بواعث تحرّكها المتمرّد على الواقع، بما في ذلك على النظام التعليمي الصارم. يومذاك، كتب روجيه غارودي، عندما كان يسارياً، كتابه "البديل" الذي كان بمثابة دليل ثوري للشباب والطلبة في تحرّكاتهم، وفيه رصد العوامل التي أفرزت هذه الظاهرة الجديدة، وشخّص حقيقة أنّ المعرفة التي تُقدّم للشبيبة تخفي الواقع بدلاً من أن تكشفه.

جرى، في حينه، التركيز على أنّ "العلوم الإنسانية" المعنيّة بدراسة المجتمع والإنسان تُعدّ حالاً نموذجية لدراسة مدى التزييف الذي تتعرّض له المعرفة. ويومذاك، أيضاً نظّم طلاب علم الاجتماع في جامعة أمستردام محاضرة بعنوان "هل ينبغي أن يكون علم الاجتماع علماً انسانياً؟"، خلصوا فيها إلى أنّ علم الاجتماع، وكذلك الاقتصاد السياسي وعلم النفس، ليست علوماً إنسانية إذا ما أُخذت بالاعتبار الطريقة التي تُدرّس بها على وجه العموم في الجامعات، وإنما هي محض توابع فقيرة لعلوم الطبيعة.

من وجهة نظر المشاركين في تلك الندوة، ينظر بعض علماء الاجتماع وعلماء النفس إلى الكائنات الإنسانية نظرتهم إلى مستعمرة من الجرذان في محاولتهم تحديد سلوكها وقياسه. كلّ ما هنالك أنّ درجة أعلى من التركيب أو التعقيد تبرز على مستوى المجتمعات الإنسانية أو الأفراد. وعليه، تستخدم العلوم المسماة بـ"الإنسانية" منهج علوم الطبيعة نفسه، وتتوخّى بلوغ الهدف نفسه: "التحكّم بالظاهرات التي هي هنا بشر". ولأنّه لا تتوفر للمشتغل بالعلوم الإنسانية رفاهية اختبار فرضياته العلمية في المختبرات للتأكد من مدى دقّتها قبل الإعلان عنها، كما يفعل علماء الطبيعة، فإنّه يجعل من البشر مختبراتٍ له.

ثمّة مذكّرة تعود إلى الفترة نفسها، ستينيات القرن العشرين، حول هذا الموضوع، لو قرأها المرء اليوم لظنّها كتبت البارحة، حين تذهب إلى أنّ علم الاجتماع المطبق على الدعاية هو تقنية تحكّم وتكييف، وأنّ الخطط التي أعدّها وزير دفاع الولايات المتحدة يومذاك، روبرت ماكنمارا، لمكافحة ثوّار أميركا اللاتينية تحت اسم "مشروع كاملوت"، قُدّمت للجمهور باعتبارها "برنامج دراسات سوسيولوجية". حتى علم النفس نفسه لم ينجُ من هذه التهمة، حين جرى التساؤل عما إذا كانت وظيفة المشتغلين فيه تتجاوز التعاطي معه بوصفه أداة تكيّف مع نظام استلابي في ذاته.

على أنّ ما طرحته الشبيبة في عام 1968 لم يبدأ بتحرّكها يومذاك ولم ينته عندها، إنّه أمرٌ سابقٌ له بكثير وأمر لاحق له، وما زال قائماً، وسيستمر في المستقبل كذلك، كون المنظومة التعليمية في كلّ المجتمعات هي التي تشكل حجر الزاوية في هندسة أذهان أفراد هذه المجتمعات، بما يضمن تأبيد هيمنة المهيمنين عليها.

وليست المصادفة وحدها ما يفسّر أنّ حركات التمرّد الطلابي تلك قد انطلقت من كليّات علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة، في إشارةٍ واضحة إلى أنّ حجم النفاق في المناهج التربوية يبدو فاضحاً ومُحرّضاً على الاحتجاج، حين تصطدم بتطلعات الأجيال الجديدة نحو منظومات قيم وأفكار جديدة أكثر اتساقاً وصدقيّة من تلك السائدة التي ترمي إلى تكريس واقعٍ فاسد وتأبيده، أو على الأقل إطالة عمره ما أمكن.

والعودة إلى تجارب المجتمعات المتطوّرة في الغرب لمعرفة إلى أي مدىً يمكن فيه توظيف ما تُدعى العلوم الإنسانية في هندسة الأذهان، وتكييفها لقبول الأمر الواقع في مجتمعٍ من المجتمعات مردّه أنّ مناهج (ومقرّرات) تدريس هذه العلوم في هذا المجتمع بلغت مدى متطوّراً بالمقارنة مع الحال في بلداننا النامية، التي تحاول استنساخ تجارب الغرب من دون بذل جهد كافٍ لتجليسها على واقعها الملموس، الذي من أهمّ سماته أنّ قضايا كثيرة حسم الغرب أمر علميتها ما زالت محلّ رفض عندنا، ما يزيد الأمر تعقيداً ويجعل تحقيق الغايات المعرفية السويّة أكثر صعوبة.

وليست المقرّرات الدراسية وطرائق تدريسها وحدها من تضطلع بتزييف الوعي بما تعبئه في أدمغة الناشئة وطلبة الجامعات به، فتلك مهمّة تضطلع بها، أيضاً، وسائل الإعلام التي يزداد تأثيرها، خاصةً مع التطوّر الهائل في الأداء الإعلامي، مع اتساع نطاق تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل طرق التفكير. وفي سبل تقديم المعلومات إلى المتلقين، وتعزيز نمط الحياة الاستهلاكي، لإشغال العامة عن قضايا مجتمعاتهم الكبرى.

كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها
حسن مدن
كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها.