ترهيب المنظمات الحقوقية في مصر

ترهيب المنظمات الحقوقية في مصر

02 ديسمبر 2020
+ الخط -

تأتي أهمية ملف المنظمات الحقوقية للنظام المصري في أنها تمثل قمة المجتمع المدني المصري، وأنها تتمايز عن باقي كياناته باستقلالها إداريًا وماليًا، كما استقلالها عن قانونٍ فعليٍّ يقيد نشأتها وعملها، بل تتخذ أشكالاً متعددة على أرضية قانونية متباينة، ويحكمها، من ثم، مع النظام المصري منطق الأمر الواقع وليس قيود التشريعات والقوانين، وربما لهاتين الخاصيتين (الاستقلال والتنوع) كان هدف النظام المصري من مواجهتها هو الهيمنة عليها ومحو استقلالها بعدما انمحت المساحة التي أوجدتها تلك المنظمات في الساحة السياسية المصرية منذ بداية العمل الحقوقي المصري في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. 

وبتتبع أوضاع منظمات حقوق الإنسان، في علاقتها مع النظم السياسية المصرية خلال العقدين الماضيين؛ يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن الصدام قد بدأ مع صعود دور العسكر في الحياة السياسية المصرية، ووصولهم إلى سدة الحكم في مصر، عقب ثورة 25 يناير في 2011. فمنذ هذا التاريخ، قام النظام العسكري باتخاذ عدة خطوات، مثلت "بالونات اختبار" وصولاً إلى المحصلة النهائية التي يبتغي الوصول إليها، وكان من ضمنها حملة الاعتقالات الأخيرة ضد أعضاء "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، والتي أعتبرها (الحملة)، بصفتي الحقوقية، تدشينًا لقاعدة جديدة في التعامل بين النظام العسكري والمنظمات الحقوقية المصرية، هي تصنيف المدافعين عن حقوق الإنسان ضمن "الإرهابيين"! 

حديث من الاتحاد الأوروبي عن الشراكات الاستراتيجية مع النظام في ملفات ليبيا، والهجرة، واللاجئين، والشراكات الاقتصادية، وغاب ملف حقوق الإنسان كليا

ولم تكن هذه القاعدة الجديدة وليدة مصادفة، بل جاءت متسقة مع إجراءاتٍ متدرّجة اتخذها، أخيرا، نظام عبد الفتاح السيسي، واندرجت تحت صفة التشريعية والسياسية والإدارية، وكان الغرض منها "جس نبض" المجتمع الدولي، وتحديدًا الدول المعروف عنها دعمها المجتمع الحقوقي في مصر، والتي عقدت/ تعقد شراكات استراتيجية معه، والنظر في رد فعلها، وما ستقدم عليه من خطوات؛ حتى يستطيع مواجهتها بخطواتٍ مماثلة، أو التخفيف من حدّة التوتر. وضمن الخطوات التشريعية هذه، كان إرساء قرارات إدارية وإلباسها لباس المشروعية القانونية في محاربته المجتمع المدني في مصر، وفي مقدمته منظمات حقوق الإنسان، سواء عن طريق إصدار أحكام من محاكم استثنائية، أو بإرساء تشريعات قانونية، الهدف منها إضفاء صبغة المشروعية على القرارات التعسفية التي تتخذها الدولة ضد منظمات حقوق الإنسان. 

أما خطواته السياسية، فقد عمد النظام المصري إلى إشغال المجتمع الدولي الداعم للمنظمات الحقوقية بالشراكات الاقتصادية والعسكرية، وتوجيه أنظاره إلى تلك المصالح، بعيدًا عن ملف حقوق الإنسان، فنجد، قبل كل خطوة اتخذها النظام ضد المنظمات والحقوقيين، نمطًا من الشراكة السياسية أو الاقتصادية مع تلك الدول الداعمة ضمانًا لسكوتها. وكانت تلك هي الخطة التي اعتمد عليها النظام المصري منذ 2015 وحتى الانتهاء من التعديلات الدستورية في إبريل/ نيسان 2019، والتي ضمن فيها السيسي الحكم بعدها بشكل مستدام. 

على سبيل المثال؛ يجد الناظر إلى المشهد السياسي المصري، أخيرا، أن الخطوات التي أقدم عليها نظام السيسي، في اعتقاله الزملاء في "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، قد سبقتها بفترة وجيزة مقابلته أكبر ممثلي الاتحاد الأوروبي، وقد حضروا إلى مصر للحديث عن الشراكات الاستراتيجية مع النظام في ملفات ليبيا، والهجرة، واللاجئين، والشراكات الاقتصادية، فيما غاب ملف حقوق الإنسان كليا عن الحديث والأنظار.

وإذا كانت هناك سمة واضحة نستطيع أن نصيغ بها تعامل الأنظمة السياسية المتعاقبة في مصر مع المنظمات الحقوقية، فإنه يمكن القول إن نظام مبارك كان يعمد، في تعامله مع المنظمات، إلى وضع العراقيل الإدارية، ومحاولة تحجيم أنشطتها، غير أنه مع تسلمه مقاليد السلطة عقب ثورة يناير، بطريق مباشر وغير مباشر، بدأ النظام العسكري التعامل مع المنظمات الحقوقية بمنطق المنع، والاعتقال، والتهديد المباشر، سواء كان بالعصا أو الجزرة. 

عمد النظام المصري إلى إشغال المجتمع الدولي الداعم للمنظمات الحقوقية بالشراكات الاقتصادية والعسكرية

وقد بدأ الصدام بين العسكر والمنظمات الحقوقية مبكرًا، بل يمكن الإشارة إلى بدايته الفعلية في 3 فبراير/ شباط 2011، وبينما يشغل المصريون ساحات ميدان التحرير وميادين المحافظات المختلفة، اعتراضًا على نظام الرئيس حسني مبارك، ورغبة في إسقاطه، داهمت الشرطة العسكرية وقتها مكتب مركز هشام مبارك للقانون، واعتقلت اثنين من مندوبي منظمة العفو الدولية، وأحد مندوبي "هيومان رايتس ووتش"، إلى جانب اعتقال (المرحوم) أحمد سيف الإسلام، والمحامي مصطفى الحسن، وآخرين. وقد وصل عدد المعتقلين آنذاك إلى 30 معتقلًا ظلوا جميعًا محتجزين في معسكر 75 التابع للشرطة العسكرية في القاهرة، كما ألقت السلطات العسكرية القبض على ثلاثة من أعضاء "المركز المصري لحقوق السكن"، فقط لأنهم اصطحبوا معهم أغطيةً للمتظاهرين في ميدان التحرير. وكانت تلك الخطوة بمثابة "إعلان نوايا" للنظام العسكري بطريقة تعامله مع المنظمات الحقوقية، حيث عمل على إيقاف امتداد تلك المنظمات، وأوصل رسالة واضحة إليها آنذاك، مفادها بأن ملف التعامل معها قد انتقل من جهاز المباحث الداخلي، المعروف وقتها بـ"مباحث أمن الدولة"، إلى "المخابرات العسكرية" كما هو المتبع الآن! 

وبعد 2013، عمد النظام العسكري فوق إطاحته السلطة السياسية المنتخبة إلى الانتقال من طور التهديد والاعتقال إلى معاملة المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الإنسان في مصر على أساس أنهم "منظمات إرهابية"، ينشط بها مجموعة من "الإرهابيين"، بالطريقة نفسها التي تعامل بها مع الجمعيات والمنظمات الخيرية التي قال إنها تابعة لجماعة الإخوان، ولكن مع تكتيك مختلف، ففي سبتمبر/ أيلول 2013، وضمن سعي السلطة إلى الانتقام من جماعة الإخوان المسلمين، والمتعاطفين معها، تم الإعلان عن التحفظ على أموال 1055 جمعيةٍ خيريةٍ كانت تقدم رعاية اجتماعية للفقراء والمساكين. 

وعلى الرغم من أن هذا مثّل، من دون شك، انتهاكًا جسيمًا وواضحًا لكل الحقوق التي عملت المنظمات الحقوقية المصرية على المناداة بها؛ إلا أن الصمت الذي خيم على المجتمع الحقوقي المصري وقتها، وعدم التنديد بمثل هذا الفعل، ولو من قبيل التنديد البياني الشكلي، كان بمثابة "ردّة" على مسار المجتمع الحقوقي المصري، ورسالة إلى النظام بالانتقال إلى الخطوة التالية. 

النظام العسكري يستهدف الجميع بالاتهام نفسه بالإرهاب من دون تمييز، ولا يفرق حقيقةً بين أيٍ يتبع أي اتجاه

كانت هذه الخطوة بمثابة "اختبار أولي"، أراد منه النظام العسكري جس نبض المجتمع الحقوقي المصري ورد فعله، خصوصًا أن أحد الضالعين في هذا القرار وشرعنته كان وزير التضامن الاجتماعي السابق في حكومة الانقلاب العسكري، أحمد البرعي، والذي كان أحد رواد المجتمع الحقوقي المصري في أثناء عهد مبارك، وما بعد الثورة، ومن المنادين بقانون مستقل بعيد عن يد الدولة للجمعيات الأهلية، وكان تواطؤه وصمت المجتمع الحقوقي آنذاك أولى حلقات إطاحة ما بقي منهم اليوم. 

عقب تمرير تلك الخطوة، اتخذ النظام العسكري خطوات أخرى، كان من شأنها تضييق الخناق على المنظمات الحقوقية؛ وكان من أبرز أدواته، في هذا الصدد، القرارات الإدارية والتشريعات، فتم تعديل نص المادة 76 من قانون العقوبات المصري، والتي كانت السبب الرئيسي في القبض على عدة حقوقيين وصحافيين وقتها، إذ جاء تعديلها خصيصًا لتجريم الحصول على التمويل الأجنبي من الخارج. وصحيحٌ أن هذا التعديل لم يمسّ قانون الجمعيات؛ إلا أن إقرارها كان السبب المباشر في وضع ما بقي من المنظمات الحقوقية المصرية تحت سيف السلطة التنفيذية. وعلى المستوى العملي، يمكن القول إن زميلنا جاسر عبد الرازق لم يكن أول المدافعين عن حقوق الإنسان الذين تم اتهامهم جزافًا بالإرهاب، كذلك لم تكن "المبادرة المصرية .. " أولى المنظمات التي يتهمها النظام بأنها إرهابية، فما حصل معها سبق حدوثه مع "التنسيقية المصرية للحقوق والحريات"، حيث اعتقل مديرها التنفيذي، عزت غنيم، في 4 مارس/ آذار 2018، ثم تلت ذلك اعتقالات متوالية لمجلس إدارة التنسيقية، ومن أعضائه المحامية هدى عبد المنعم. ومن ثم، لا يبدو من قبيل المصادفة أن تتزامن ذكرى مرور عامين على اعتقال مجلس إدارة التنسيقية، ومرور أكثر من ثلاثة أعوام على اعتقال مديرها، عزت غنيم، مع البدء بتطبيق الممارسات نفسها التي تمت ضدهم، ولكن هذه المرة مع "المبادرة المصرية .."، والهدف واحد، وصمها بـ"الإرهاب". 

تنحسر المطالب الدولية في المجال الحقوقي من مطالباتٍ عامة وعاجلة، بخصوص سياسات الدولة، إلى محض نفي تهمةٍ شائنة، كالإرهاب!

بهذا يكون النظام المصري قد انتقل، عبر العقدين الماضيين، في علاقته مع المنظمات الحقوقية من التضييق الإداري، في عهد الرئيس مبارك، ومناورة مطالب المجتمع الدولي التي كانت تهدف إلى تعديل السياسات والتشريعات المنظمة لملف المجتمع المدني، إلى تعامل النظام العسكري بعد 2013 مع المجتمع الدولي بخصوص ملف حقوق الإنسان بمنطق "الرهائن"، حيث قصر مطالباتهم لا على التعديلات السياسية والقانونية العامة، بل على مطالباتٍ فرديةٍ بالإفراج عن قوائم لبضعة أفراد مؤثّرين لقاء مكاسب سياسية وقتية، ثم أخيرا، تحوّلت العلاقة بين النظام المصري والمجتمع الدولي، في هذا الملف، إلى مستوىً أكثر انحطاطًا، وهو مطالبة المجتمع الدولي بالبدء لا بمطالب الإفراج، بل بإثبات براءة المؤثّرين في المنظمات الحقوقية المصرية من تهمة مسبقة هي "الإرهاب"، ثم المساومة على الإفراج من عدمه، ما يعني الخسف بسقف المطالب الدولية في المجال الحقوقي، لينحسر من مطالباتٍ عامة وعاجلة، بخصوص سياسات الدولة، إلى محض نفي تهمةٍ شائنة، كالإرهاب، عن أفراد مشهود لهم في الداخل والخارج بالعمل الحقوقي والسياسي السلمي.

من هنا، يبدو المخرج الوحيد لطرفي العلاقة غير المتكافئة مع النظام المصري (المنظمات الحقوقية والمدافعون عن حقوق الإنسان من جهة والمجتمع الدولي الداعم لهم من جهة أخرى) يتمثل في العمل على حشد الضغط الدولي ضد النظام المصري، ربما ببدء العمل على توصيف مصر دولة لا تلتزم باتفاقيات حقوق الإنسان الدولية، وحشد المعارضة الدولية لمساومة مصر المجتمع الدولي بالصفقات العسكرية والاقتصادية، لقاء غض النظر عن تجاوزاتها في ملف حقوق الإنسان، وكذلك تفعيل مبدأ الشراكات الاستراتيجية القائمة على مسطرة حقوق الإنسان، وعدم الاعتداد بأية نتائج قائمة على تشريعات قمعية أصدرها النظام، في ما يخص تعريف الإرهاب. وأخيرًا وليس آخرًا، أن يعمل المجتمع المدني الحقوقي على وقف التمييز بين الحقوقيين المحسوبين على التيار المدني وغيرهم المحسوبين على التيار المحافظ أو/والإسلامي، بالاعتبار من درس التاريخ القريب: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فالنظام العسكري يستهدف الجميع بالاتهام نفسه من دون تمييز، ولا يفرق حقيقةً بين أيٍ يتبع أي اتجاه.

أحمد مفرح
أحمد مفرح
حقوقي مصري في جنيف، مدير تنفيذي في "كوميتي فور جستس"