تركيا وسورية وحدود الشراكة الجديدة

أسّست الزيارة الأولى للرئيس السوري المؤقّت أحمد الشرع تركيا أرضيةً لمشروع شراكة استراتيجية بين البلدين. ومن الانطباعات التي يُمكن أخذها عن الزيارة ونتائجها، أن هذه الشراكة ستكون لها خصوصية تُميّزها من الشراكات الأخرى التي يسعى الشرع لتأسيسها مع قوىً إقليمية مثل السعودية. وترجع هذه الخصوصية إلى الجوانب الأكثر حساسية في العلاقات التركية السورية الجديدة، مثل الدور الذي ستلعبه أنقرة في تأسيس وتأهيل وتسليح الجيش السوري الجديد، وإمكانية إبرام اتفاقية دفاع مشترك بين الطرفين، تُتيح لتركيا تأسيس قواعد عسكرية لها في سورية، واستخدام مجالها الجوي لأغراض عسكرية، والدفاع عنها في مواجهة أي تهديد خارجي مُحتمل، فضلاً عن التصوّر السائد بأن تركيا ستلعب الدور الأكبر في عملية إعادة إعمار سورية.
سيستغرق الأمر بعض الوقت لاتضاح معالم هذه الشراكة وحدودها. مع ذلك، تُظهر أنقرة طموحاتها الواسعة في العلاقات الجديدة، وعلاوة على التعاون الدفاعي وتقاطع المصالح مع دمشق في مواجهة التهديد الذي تُشكّله وحدات حماية الشعب الكردية لوحدة الأراضي السورية، ولأمن تركيا، تتطلع أنقرة إلى إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدَين. ومثل هذه الاتفاقية ستكون لها انعكاسات كبيرة على الصراع الجيوسياسي مُتعدّد الأطراف في شرق البحر المتوسط. علاوة على ذلك، فإن مشروع الشراكة الاستراتيجية سيُعيد تشكيل توازن القوى على مستوى الشرق الأوسط، لجهة تعميق حضور تركيا قوةً فاعلة في الجغرافيا السياسية الإقليمية. وانطلاقاً من هذه الاعتبارات، فإن المسار الذي ستسلكه العلاقات التركية السورية الجديد يحظى باهتمام ومراقبة كبيرين على المستوى الإقليمي والدولي.
مشروع الشراكة الاستراتيجية السورية التركية سيُعيد تشكيل توازن القوى
بالنسبة إلى الشرع، فإن الشراكة الاستراتيجية مع تركيا لا تندرج في إطار الخيارات الجيوسياسية بقدر ما تُشكل حاجة لسورية، انطلاقاً من واقع الجغرافيا، وتأسيس تركيا حضوراً عميقاً مُتعدّدَ الأوجه في سورية خلال سنوات الصراع، فضلاً عن أن تركيا، وعلى عكس معظم الدول الإقليمية والدولية الأخرى، تتجنّب وضع أيّ شروط على الإدارة السورية الجديدة في مقابل التعامل معها، ودعمها، إلى جانب أنها تنظر إلى إنجاح تجربة التحوّل السوري على أنها حاجة أمنية لها ولطموحاتها الجيوسياسية. مع ذلك، يُظهِر الشرع قدراً كبيراً من الإدراك لواقع الجغرافيا السياسية الإقليمية والحاجة إلى تجنّب الانخراط السلبي فيها. وقد صمم اختيار السعودية أوّلَ وجهة خارجية له لإظهار رغبته في تنويع الشراكات الجديدة مع الإقليم، ولتأكيد أن العلاقة مع الرياض لن تكون على حساب العلاقة مع أنقرة، والعكس. وحقيقة أن سورية بحاجة اليوم إلى مثل هذا التوازن في الشراكات تُفسّر عملية الموازنة التي يُحاول الشرع القيام بها لتشكيل سياسة سورية الخارجية.
حتى الآن، تُظهِر السياستان التركية والسعودية في سورية انسجاماً كبيراً في الأهداف، لكنّ الطموحات قد تتعارض في نهاية المطاف. إن دافعاً رئيساً من دوافع الاحتضان السعودي للشرع يرجع إلى مسعى الرياض لتعظيم حضورها في سورية من أجل موازنة الحضور التركي، وستتوقّف قدرة الشرع في الموازنة بين السعودية وتركيا على حدود انسجام سياسات البلدَين وإدارة المنافسة بينها. وما يأمله الشرع أن تؤدّي رغبته في إفساح المجال للرياض وأنقرة لتعظيم حضورهما في سورية إلى تحصين إدارته الجديدة، من خلال احتضانها من قوتَين إقليميتَين، الأولى تُمثّل العمق العربي، وقادرة على التأثير في تشكيل السياسات الغربية في سورية، والثانية تُمثّل شريكاً استراتيجياً طبيعياً بحكم الجغرافيا، ودورها القوي في دعم الثورة السورية، وتلعب دوراً مساعداً في الحفاظ على وحدة سورية، وتقويض طموحات الوحدات الكردية.
تتركز أولوية أحمد الشرع في الوقت الراهن على تكريس السلطة الجديدة في الداخل، وتوفير متطلّبات نجاحها
علاوة على ذلك، ستُحدّد النظرة الأميركية إلى مشروع الشراكة التركية السورية حدود قدرة الشرع على الذهاب بعيداً فيها. لا يُمكن تقديم تصوّر دقيق للنهج الذي سيتبعه الرئيس دونالد ترامب في سورية، وسيحتاج الأمر بعض الوقت لمعرفة اتجاهاته العريضة، وأثرها في الحالة السورية، لكنّه يُظهِر رغبةً في تجنّب التأثير القوي في سياق التحوّل، ويميل إلى إبرام صفقة مع تركيا بخصوص ملفّ الوحدات الكردية. ومثل هذا الاتجاه (المُرجّح) سيُساعد في تقويض التحدّيات التي تواجه الشراكة السورية التركية. وبقدر ما يحتاج الشرع انخراطاً تركياً قوياً في دعم سورية الجديدة، ومساعدتها خصوصاً في الجوانب العسكرية، فإنه يحتاج أيضاً انخراطاً سعودياً قوياً في دعمه، وكذلك انفتاحاً غربياً واسعاً عليه لتفكيك العقوبات والعزلة التي تواجهها سورية. إن هذه العوامل مُجتمعة، ومساراتها في الفترة المقبلة، ستعلب دوراً مؤثّراً في توضيح حدود مشروع الشراكة الاستراتيجية التركية السورية.
تتركز أولوية أحمد الشرع في الوقت الراهن على تكريس السلطة الجديدة في الداخل، وتوفير متطلّبات نجاحها، وهي أولوية منطقية وملحّة في التحوّلات عموماً، وفي حالة سورية خصوصاً. وتعزيز التفاعل مع الخارج مُصمَّم بدرجة أساسية لخدمة هذه الأولوية. وإنتاج سياسة خارجية قادرة على توفير متطلّبات النجاح والموازنة في الشراكات مع تركيا والسعودية، وإقناع الدول الغربية بمزايا تفكيك سريع للعقوبات، والتوصّل إلى تسوية سياسية لمعالجة ملفّ الوحدات الكردية، سيختصر الكثير من المسافات على الشرع لتحقيق أهدافه، وعلى التحوّل السوري، لتعظيم فرص نجاحه في نهاية المطاف.