تركيا وإسرائيل... محرّكات الاشتباك السوري ومآلاته

قوة إسرائيلية في الجولان السوري المحتل (27/2/2025 فرانس برس)
مع مرور أربعة أشهر على إطاحة نظام بشّار الأسد، بدأت الارتدادات الإقليمية للتحوّل السوري تظهر بوضوح أكبرَ وأكثرَ خطورة، من خلال ملامح الاشتباك الجيوسياسي التركي الإسرائيلي في سورية. المُحركات الدافعة لهذا الاشتباك مُتعددة. من جانب، يظهر التناقض الصارخ في الرؤية التركية والإسرائيلية لسورية الجديدة، بينما تُريد أنقرة إنجاح التحوّل والحفاظ على وحدة سورية، وتُظهر تلّ أبيب صراحة رغبتها في تقويضه، وحتى تفكيك الكيان السوري، لاعتبارات تستمدّ قوّتها أولاً، من الهاجس من ارتدادات انهيار نظام أقلّوي اعتادت عليه إسرائيل نحو ستّة عقود، وتركَ مكانه وضعاً جديداً لا يُمكن التنبّؤ بآثاره فيها، وثانياً من القلق من الخلفية الجهادية السابقة للرئيس أحمد الشرع، ومن حكم الأكثرية السُّنية عموماً، وثالثاً، من محاولة تقويض التداعيات الجيوسياسية لهذا التحوّل على صعيد منع تركيا من تحقيق أكبر قدر من الفوائد المُتصوَّرة منه.
الصدام العسكري مرفوض بالمطلق في مقاربة تركيا، يجلب تكاليفَ تفوق بكثير الفوائد
أمّا تركيا، فهي تُقارب سورية الجديدة من منظور حاجتها إلى إنجاح عملية التحوّل، وتجنّب كارثة جيوسياسية يُمكن أن يجلبه لها فشل التحوّل أولاً، وثانياً من منظور الميزة الجيوسياسية التي منحها لها التحوّل على صعيد تعزيز نفوذها الأمني والسياسي والاقتصادي في سورية، وعلى صعيد استثمار هذا النفوذ لتعميق دورها في الشرق الأوسط قوّةً فاعلة. وثالثاً، من منظور إصلاح الخلل الكبير الذي طرأ على توازن النظام الإقليمي بعد حرب 7 أكتوبر (2023)، الذي يتجسّد في النزعة التوسّعية الإسرائيلية في المنطقة، والفراغ الذي تركه الانكفاء الإيراني، وميول إدارة الرئيس ترامب إلى الانسحاب من سورية، وتقليص انخراطها في الشرق الأوسط. إن هذا التصادم، في المقاربتين الإسرائيلية والتركية للتحوّل السوري، يرفع من مخاطر تطوّره اشتباكاً سيكون له ارتدادات كبيرة، ليس على تركيا وإسرائيل وسورية فقط، بل على النظام الإقليمي بأسره.
مع ذلك، لا يبدو صراع التوازنات الإقليمية الحالي في سورية جديداً، بقدر ما هو امتداد لحقبة الحرب خلال 13 سنة مضت، مع تحوّلات في أدوار القوى الفاعلة فيه. فمن جهة، ضاعف التحوّل السوري من أدوار بعض القوى مثل تركيا وإسرائيل ودول الخليج، في حين أضعف على نحو كبير حضور إيران فيه، بينما تستعدّ الولايات المتحدة لمغادرة سورية. وحتى في الوقت الذي تستطيع فيه أنقرة وتلّ أبيب إدارة الاشتباك الجيوسياسي، تبدو مخاطره مرتفعةً، لأن إسرائيل بعد "7 أكتوبر" مُختلفةٌ عمّا كانت قبلها، من حيث جشعها التوسّعي في الإقليم، ولأن تركيا تختلف عن إيران من جهة توازن القوى وطبيعة علاقاتها بإسرائيل وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ولأن سورية اليوم ليست سورية في الأمس، إذ فيها الحكم الجديد، وما يُمثّله من تحوّل مُجتمعي وسياسي كبير في تركيبة السلطة الداخلية.
رغم ذلك، لا تحظى فكرة إدارةٍ مرتفعةِ المخاطر للصدام التركي الإسرائيلي بقبول البلدَين. وقد قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في مقابلة مع وكالة رويترز (4/4/2025)، إن بلاده لا تُريد مواجهةً مع إسرائيل في سورية. ومع أن هذا القول لا يبدو مفاجئاً، لكنه يُعطي ثلاثة مؤشّرات مُهمّة. الأول، أن الصدام العسكري مرفوض بالمطلق في مقاربة تركيا، لاعتبارات عديدة، أكثرها أهميةً أنه يجلب تكاليف تفوق بكثير الفوائد، وتُهدّد أولويات أنقرة الرئيسة في سورية، والممثّلة بتعزيز حكم أحمد الشرع الذي يُشكّل بوابةً لتعزيز الحضور التركي في المدى البعيد. وثانيها، أن رفض خيار المواجهة يعني بالضرورة الانفتاح على تفاهم ما، لأنه السبيل الوحيد لمنعها. وقد مهّد فيدان على ما يبدو لهذا المسار بالقول إن دمشق إذا كانت تُريد "تفاهمات مُعينة" مع إسرائيل فهذا شأنها الخاص. وثالثها، أن أنقرة تأخذ باهتمام خاصّ علاقتها بإدارة ترامب في مقاربة الموقف مع إسرائيل، ولا تُريد أيّ تصعيد مع إسرائيل يُهدّد هذه العلاقة، ومسار التفاهمات الثنائية في سورية.
لا تحظى فكرة إدارةٍ مرتفعةِ المخاطر للصدام التركي الإسرائيلي بقبول البلدَين
تعزّز حقيقة إدراك أنقرة وتلّ أبيب مخاطر التصادم فرضية أن المسار التفاوضي بينها بدأ في وقت مُبكّر من إطاحة نظام الأسد. كما أن الولايات المتحدة مُنخرطة في هذا المسار في محاولة للتوصل إلى ترتيب يُدير هذا الاشتباك الجيوسياسي، لأن خروجه عن السيطرة يضغط أولاً على رغبة ترامب في مغادرة سورية، ويقوّض ثانياً جهوده لجمع تركيا وإسرائيل في نظام جديد يُدير الشرق الأوسط، بانخراط أميركي أقلّ.
تواجه فرص التفاهم بين تركيا وإسرائيل في سورية تعقيدات كبيرة، لكنّه الخير الوحيد المطروح على الطاولة، ويبدو الرئيس الشرع جزءاً من هذا المسار التفاوضي، الذي تنخرط فيه قوىً أخرى كالسعودية. وبمعزل عن مآلات هذا المسار، ستُختبر سورية في جانب حدود إسرائيل في إعادة تصميم الشرق الأوسط، ودورها فيه قوّةً مهيمنةً في تشكيل السلطة، وفي جانب آخر، حدود تركيا في تحدّي هذا التصميم، الذي يهدف إلى رسم حدود لحضورها الإقليمي. ونتائج هذا الاشتباك الجيوسياسي ستشكّل الجانب الأكبر (والأكثر أهمية) من النظام الإقليمي بعد "7 أكتوبر".