تركيا ليست غريبةً عنّا

23 يونيو 2025

جموع من المارة في شارع الاستقلال في منطقة تقسيم في إسطنبول (31/3/2025 فرانس برس)

+ الخط -

حين تكون في تركيا تشعر بأنك تعرفها قبل أن تراها، حتى وإن كانت زيارتك الأولى لها كما حدث لي. فتحيّة "السلام عليكم" أول ما يبدأ به الناس لقاءاتهم، وعادة تناول الشاي بكثرة تشبه العادة العربية وخصوصاً في العراق والشام. هناك أيضاً ارتياد الكهول المقاهي بكثرة، وتشابه الأطعمة المنتشرة مثل الشاورما والكفتة. والعبارات العربية التي تترصّع بها اللغة التركية من قبيل كلمات: حساب، وتمام، وكتاب، وأفندم، وكلمة طبق التي تطلق على الصحن، وبرتقال، وإكرام التي تعني من دون مقابل، وتشكُّر التي تعني شكراً، وغيرها من كلمات كثيرة التقطتها أذناي في الأيام الأولى من زيارتي (الأولى) إلى إسطنبول. رغم أن كثيرين من عُمان وغيرها يزورون تركيا، ومختلف مدنها الجاذبة، مثل طرابزون وأنطاليا وأزمير، إلا أنه لم تتوافر لي الفرصة لزيارتها، وقد كانت زيارتي لها مصادفة، والباعث المباشر لها وجود الكاتب الصديق محمود الريماوي فيها قادماً من كوسوفو، وقد تعطّلت به الرحلة في إسطنبول، المفترض أن يمرّ عليها عبوراً (ترانزيت)، وبسبب الحرب بين إسرائيل وإيران، أُجلّت رحلته إلى العاصمة الأردنية، وطال الترانزيت أياماً. وإسطنبول ليست بعيدة من مسقط، إذ تقطع الطائرة الرحلة مباشرة في حوالي خمس ساعات، وبسعر 300 دولار على شركة الطيران العُمانية الرسمية، وأقلّ من ذلك قليلاً على "طيران السلام" الخاصة. إسطنبول جميلة وأنيقة وحديثة جدّاً، ومتميّزة في نظافة الشوارع واللبس والتنظيم وكثرة الحدائق العامّة والمتنزهات. هناك أيضاً عراقة البنايات المنتشرة في كلّ مكان، إذ تنهض شامخةً القصور والمباني الأثرية التي استثمرت. بلد يمكنه أن يذكّرك بسهولة ببعض بلدان أوروبا الغربية، مثل إيطاليا وإسبانيا، وقد قطع الأتراك أشواطاً واسعةً في التنمية والصناعة ورفاهية الفرد، والتحرّر من القيود الشخصية. هناك أيضاً المكتبات المنشرة بصورة واضحة في كلّ مكان، بل أحياناً في أماكن الزحام، وفي الأسواق يمكنك أن تجد رجلاً يحمل صفّاً من الكتب وهو يجول بها ليبيعها.
ولا بدّ لزائر إسطنبول أن يعرّج على شارع الاستقلال العريق، الذي ينتهي بساحة تقسيم الواسعة، والطريق إلى هناك يتم عبر قطع مسافة عشرين دقيقة تقريباً على ظهر عبّارة تخترق مضيق البوسفور. يتميّز شارع الاستقلال بالمرتفعات ما يذكّر بطنجة. وقد قطع اثنانا (محمود الريماوي وأنا) المسافة كاملة على الأقدام، تخلّل ذلك المشي المجهد بعض استراحات خفيفة. كانت البنايات تنهض مرتفعةً من حولنا، ومعظمها ملفت بعراقته، ينتهي كلّ شارع بمسجد كبير بمئذنته المخروطية المميزة وقبّته العريضة. ضمن الاستراحات، كان مقهى يطلق عليه "الكتاب" وفيه مكتبة عامرة. وهناك شربنا قهوةً والتقطنا صوراً. وفي السوق تصل إليك رائحة الكنافة وغيرها من حلويات تركية، في الوقت الذي تحلق نوارس فوق الرؤوس، وتتنزه بحرّية بين الأرجل، لقرب البحر من الحي الذي نقطن فيه. "كاديكوي"، الحيُّ الذي يتميّز بالامتداد والتوسّع، ومبانيه وفنادقه تجمع بين العراقة والحداثة، إلى جانب ما يزخر به من خدمات ومواصلات وأسواق تتفرع على مدّ البصر. فما إن تتقدّم وتتوه في مكان، حتى تنفتح عيناك على سوق أو مجمّع لمحالَّ كثيرةٍ، والمميز أن معظم معروضاتها من الصناعات التركية، ابتداء من الأحذية، وليس انتهاء بالأدوات الصحّية. كلّ شيء تقريباً هو نتاج اليد والأرض التركيَّتَين.
هناك ميزة بشرية أيضاً تمكن ملاحظتها، وهي بساطة الناس ولطفهم واستعدادهم للحديث المطوّل معك، الذي يشبه طباعنا العربية، لولا حاجز اللغة، إذ إنهم يتعصّبون للغتهم في الغالب الأعمّ، أو إن معظمهم لا يجيد غيرها، ولكن يمكنك أن ترى مجموعة من الشباب والمتعلّمين يتحدّثون الإنكليزية للضرورة. في إحدى المرّات، ونحن راجعون من شارع تقسيم إلى كاديكوي، احتجنا شراء بطاقات لركوب العبّارة، ولأن المواصلات الداخلية في إسطنبول حديثة، ولا يجرى التعامل فيها إلا ببطاقة الشراء، استعنّا بشابّ ليشتري لنا التذاكر ببطاقته، على أن ندفع له ثمنها نقداً، ولكنّه حين أدخلنا إلى ساحة انتظار السفينة، رفض أن يأخذ أيّ مبلغ منّا، ولم يستجب لإلحاحنا، بل دفع نفسه مبتعداً حتى لا نلحق به.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي