تركيا في اللحظة الأوكرانية

تركيا في اللحظة الأوكرانية

21 مارس 2022

أوكرانيون في أنقرة يحتجون على الهجمات الروسية على بلدهم (12/3/2022/الأناضول)

+ الخط -

انتقدت تركيا العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، ورفضت خطوات موسكو بالتدخل في القرم، ودعمت القرارات الدولية ضد روسيا وحرّكت بنود اتفاقية مونترو للمضائق، لكنها لم تشارك في قرارات العقوبات الغربية على موسكو، ولم تغلق الأجواء أمام حركة الطيران الروسي، وحمّلت الغرب جزءا كبيرا من مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد، بسبب ارتباك مواقفه وسياساته في التعامل مع الملف. لا بل تمسّكت أنقرة، من أجل حماية مصالحها مع طرفي النزاع، بالدعوة الى التهدئة وضرورة عدم نقل التوتر إلى مرحلة المواجهات العسكرية، مبدية استعدادها للدخول على خط الوساطة، وتسهيل الحوار بين الجانبين، الروسي والأوكراني. قامت بما عليها فعله وأكثر، لأن علاقاتها الاستراتيجية مع الطرفين ستكون مهدّدة، ولأن إطالة عمر الأزمة سيجعلها بين أبرز المتضرّرين اقتصاديا من العقوبات الغربية على موسكو، حيث المئات من مشاريع الاستثمار والتعاون التركي الروسي.
ولكن القيادات السياسية التركية تدرك أيضا أن مشكلتها الأكبر ستكون في قدرتها على مواصلة سياستها الحيادية المعلنة، في حال تفاقمت الأزمة وازداد التوتر الروسي الغربي، فما الذي كان يدور في ذهن الرئيس التركي، أردوغان، عند وضع خطة الحياد الإيجابي في التعامل مع ملف الأزمة الأوكرانية، وهو الذي يعرف أكثر من غيره صعوبة وصولها إلى بر الأمان مع مواقف روسية وأوكرانية متشدّدة، ومصيدة أميركية للرئيس الروسي بوتين لا يريد الرئيس الأميركي بايدن التفريط بها، وتعبئة دولية وأممية ضد الغزو ستظل تطارد موسكو سنوات طويلة، بشقها السياسي والقانوني والاقتصادي والمادي؟ كما أن هناك أزمة اللجوء والتعويضات والمحاكم والعقوبات التي يريد الغرب أن تحرّك سريعا المدن الروسية وطبقة الأغنياء ضد السلطة السياسية الحاكمة، فكيف ولماذا تغامر أنقرة على هذا النحو؟ وما الذي تبحث عنه من خلال استراتيجية تحرّك من هذا النوع؟

تستحقّ المكاسب المغامرة، وأنقرة لن تتأخر في تفعيل دبلوماسية الاستقبال والتوديع وإبقاء الخط ساخنا مع موسكو وكييف

عند انطلاق العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، كان الرئيس التركي في جولةٍ أفريقية قطعها على الفور، وعاد سريعا إلى أنقرة لمتابعة تطورات المشهد وإعداد خطة تحرّك تركي تهدف، قبل كل شيء، لحماية مصالح تركيا مع البلدين المتحاربين، واتخاذ تدابير تخفيف ارتدادات الأزمة على أرقام التجارة والسياحة والتعاون الواسع مع موسكو وكييف، في ملفات ثنائية وإقليمية. هناك عملية إعادة تموضع تركي في السياسة الخارجية بدأت تعطي نتائجها الإيجابية. وهناك فرصة سانحة لأنقرة بسبب الموقع والدور في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وشرق المتوسط ومنطقة البحر الأسود والعضوية في حلف شمال الأطلسي وحاجة الغرب وروسيا المتزايدة لها اليوم، وهي ليست بحاجة لأن تتردّد أو تتأخر في تبنّي سياسة الحياد الإيجابي على خط الأزمة الأوكرانية التي قد تعطيها أكثر مما تنتظر أو تتوقع.
تستحقّ المكاسب المغامرة، وأنقرة لن تتأخر في تفعيل دبلوماسية الاستقبال والتوديع وإبقاء الخط ساخنا مع موسكو وكييف، حتى ولو فشلت محاولتها الأولى في مدينة أنطاليا. هذا إلى جانب حقيقة أن تركيا لا تتحرّك بمفردها. هناك من ينسّق معها مباشرة في الملف، ويهمّه، هو الآخر، تحقيق إنجاز إقليمي يعزّز دوره ويحمي مصالحه. كان الرئيس الإسرائيلي، هرتسوغ، مثلا، يستعد لزيارة المصالحة، فوجد نفسه ينسّق مع تركيا، ويبحث خطوات ما يمكن فعله معا في ملف الأزمة الأوكرانية، وسبل المساعدة على حل الخلافات، لأن سياساتهما هناك متطابقة ومصالحهما تتطلب ذلك. القيادات السياسية الغربية التي تمثل التكتلات والدول التي زارت أنقرة في الأسبوعين الأخيرين عددها لا يُحصى. لم تحضر حتما إلى تركيا لإقناعها بالتخلي عن حياديتها، والدليل هو تصريحات المستشار الألماني شولتز ورئيس الوزراء اليوناني ميتشوتاكيس عن ضرورات رفع مستوى التعاون لصناعة البدائل والخيارات الجديدة في العلاقات، وهو ما لم يكن ليحدث لولا تفاعلات ما يجري في أوكرانيا. قرأ بايدن المشهد باكرا، عندما قرّر التخلي عن دعم مشروع "إيست ميد" لنقل الطاقة الإسرائيلية إلى أوروبا. وقد جاء هرتسوغ يناقش المشروع البديل لخطة نقل الغاز الروسي إلى برلين، في محاولة لإقناع تركيا بإشراك اليونان.

الوصول إلى مسار سياسي دبلوماسي في الأزمة الأوكرانية بوساطة تركيا يعني بقاء حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان على رأس السلطة

مكاسب نجاح تركيا في التوسط بين الروس والوكرانيين لمساعدتهم على الخروج من ورطة الحرب والذهاب نحو تسوية سياسية ترضي الطرفين لا تعدّ. كذلك الأمر بالنسبة للدول التي يهمها إفشال جهود تركيا ومنعها من تحقيق أهدافها. الوصول إلى نتيجة مرضية تفتح الأبواب أمام مسار سياسي دبلوماسي في ملف الأزمة الأوكرانية بوساطة تركيا أو تسهيل منها يعني بقاء حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان على رأس السلطة في تركيا حقبة سياسية إضافية، بدعم شعبي واسع يطيح كل استطلاعات الرأي التي تحدّث معظمها عن تراجع أصوات الحزب الحاكم ورئيسه وصعوبة فوزهما في أول انتخابات برلمانية ورئاسية تنتظر البلاد. تسجيل اختراق من الحزب الحاكم وقياداته سيعني أولا تحطيمه أرقامه القياسية في البقاء على رأس السلطة، وإنهاء حلم أحزاب المعارضة في التغيير وإزاحة اردوغان وحركته. ويخيّب ثانيا آمال بعض العواصم التي تنتظر بحماس تحوّلا من هذا النوع. لكن الرئيس التركي لن يتوقف عند ذلك، حتى ولو بدأ بعضهم يردّد اسمه مرشّحا لجائزة نوبل للسلام في حال تسجيله هذا الاختراق السياسي الكبير. سيجيّر أردوغان حتما إنجازات هذه الخطوة لاستثمارها في التعامل مع ملفات سياسية واقتصادية على خط العلاقة التركية الروسية والتركية الغربية إلى جانب صناعة تفاهماتٍ إقليمية جديدة، بهدف تسوية مشكلات عديدة عالقة ومشاريع استراتيجية متعدّدة الجوانب والأطراف، سيكون للملف السوري، نقطة الضعف التركية اليوم، حصة الأسد فيها. هل تستعد المعارضة السورية لسيناريوهات من هذا النوع؟ 

حيادية تركيا المرفقة بتحرّك إيجابي في الأزمة الأوكرانية مزعجة لعواصم عربية بنت كل استراتيجيتها الإقليمية على مواجهة النفوذ والتمدّد التركيين

اكتشفت تركيا أن أفضل وسيلة للتعامل مع ملف الأزمة الأوكرانية في هذه المرحلة، تبنّي سياسة الحياد الإيجابي وإقناع الشركاء في الغرب بأسباب (وضرورات) اتخاذها موقفا من هذا النوع سيخدم أيضا فرص إبقاء أبواب الحوار مفتوحةً مع روسيا، بانتظار تطورات المشهد بشقيه، العسكري والسياسي، واتضاح موقف حلف شمال الأطلسي الذي يلزمها وحده بسياسةٍ مشتركةٍ مع أعضاء التكتل. ندّدت أنقرة بالعملية العسكرية الروسية، ودعمت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا الخصوص، ورفضت سياسة موسكو ومواقفها في القرم، ومحاولة ضم إقليم دونباس بشكل مخالف لمبادئ القانون الدولي وأسسه، لكنها حمّلت العواصم الغربية مسؤولية فتح الطريق أمام روسيا لتفعل ما تريده، ابتداء من العام 2008 مع جورجيا ثم في العام 2014 في شرق أوكرانيا، وهو ما منحها مزيدا من الاستقلالية في رسم معالم سياستها حيال الأزمة. بعد أيام فقط على تفاقم الأوضاع الميدانية والعسكرية في المدن الأوكرانية، كان الرئيس أردوغان ووزير خارجيته جاووش أوغلو ومستشاره إبراهيم كالين قد أجروا أكثر من 50 اتصالا مع اللاعبين المؤثرين في الملف، حسب بيانات وكالة أنباء الأناضول الرسمية. كم هو عدد العواصم التي قبلت "التورّط" في الملف على هذا النحو؟
جامعة الدول العربية التي تبنت غالبية دولها سياسة الحياد السلبي في الملف الأوكراني مثلا، والتي كانت ترصد ردود الفعل بشأن بيانها المندّد بالتدخلات التركية في سورية والعراق وليبيا، صدمها بشار الأسد بقرار "سيادي" يطيح مصطلح السيادة الذي ساقته الجامعة ضد تركيا، وهو يعلن إرسال مرتزقته إلى المدن الأوكرانية لرد الجميل الروسي. تركيا تتدخل في سورية وتهدد سيادتها، وهي مدعوة عربيا إلى الانسحاب الفوري من هناك، والنظام السوري يرسل متطوعيه إلى أوكرانيا لمساندة الجيش الروسي في غزوها! حيادية تركيا المرفقة بتحرّك إيجابي في الأزمة الأوكرانية مزعجة لعواصم عربية بنت كل استراتيجيتها الإقليمية على مواجهة النفوذ والتمدّد التركيين، حتى ولو كانت المعارك في فيزان، كما يقول المثل الشعبي في الأناضول. هي قلقة لأنها ستفقد حلفاء وشركاء كانت تعوّل عليهم لتضييق الخناق على أنقرة في المنطقة، ثم جاء الأسد ليطعنها في الظهر، وهي تحاول لعب ورقته تحت غطاء الدفاع عن سيادة سورية.

4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.