08 نوفمبر 2024
تركيا .. القوة الصلبة بدل الناعمة
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
غيّر التدخل العسكري التركي في ليبيا، نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، موازين القوى هناك، وقلب مجريات المعارك في الميدان، لمصلحة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من المجتمع الدولي، بعدما انتقلت من وضعية الدفاع؛ بالتصدّي، منذ إبريل/نيسان 2019، لهجمات قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في حملته لاجتياح العاصمة طرابلس، نحو الهجوم؛ بإطلاق عملية "عاصفة السلام" التي عزّزت سيطرتها على مدن مهمة في الساحل الغربي، وكبّدت قوات حفتر خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد.
تحرّك عسكري جديد للقوات التركية، على شاكلة السيناريو الروسي في سورية، في شمال أفريقيا بعيدا عن مجالها الحيوي المعتاد في الشرق الأوسط؛ كما هو الحال في سورية والعراق، دفاعا عن أمنها القومي وتوازناتها الجيواستراتيجية، خلّف ردود فعل متباينة على الصعيد الدولي؛ تراوحت بين الشجب والإدانة؛ تصريحا أو تلميحا، من حلفاء خليفة حفتر، والتأييد والمساندة من داعمي الحكومة الشرعية في ليبيا. وأعاد النقاش حول سياسة "القوة الناعمة" التي تبنّتها الحكومة التركية، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. تحولت هذه السياسة إلى "ماركة مسجلة"، هندست تركيا علاقاتها الدولية وفقها، وكان أحمد داود أوغلو؛ وزير الخارجية ثم رئيس الوزراء الأسبق، المنظّر الأول لهذه الاستراتيجية، بدعوته إلى إعادة توجُه تركيا نموذجا للنفوذ في المنطقة، من خلال العمل على إيجاد مكانة إقليمية؛ بهويةٍ مزدوجةٍ قوامها التركية والإسلام، بعيدا عن التبعية المطلقة للغرب منذ الحقبة الكمالية. وكان الغزو الأميركي للعراق، عام 2003، أول الاختبارات التي واجهت تطبيق هذه السياسة.
استند هذا التوجه الجديد في السياسة الخارجية لأنقرة على عدة أسس، منها: مراجعة شاملة
لعلاقاتها الخارجية، على ضوء سياسة "صفر مشكلات"، حيث عمدت إلى التقارب مع الجميع، بما في ذلك الدول التي كانت علاقاتها متوترة معها، قصد وأد أي نزاع أو توتر محتمل مع المحيط القريب. وتبنّي "سياسة خارجية متعدّدة الأبعاد" تقوم على اعتبار تركيا مركز المنطقة، حيث تقاطع القوى السياسية والمناطق الحيوية في العالم، لا مجرّد قنطرة عبور بين ضفتي العالم الشرقية والغربية. بالإضافة إلى الانخراط بفعالية في مختلف "القضايا الإنسانية العادلة" في العالم، خصوصا في الشرق الأوسط، لأن هذه المنطقة بالنسبة لتركيا التي وجدت نفسها أمام ثاني اختبار لهذه السياسة، في محطة الربيع العربي عام 2011، حين صدحت الشعوب في الميادين والساحات مطالبة بإسقاط زعماء عرب، تربطهم علاقات متينة ونوعية بتركيا (بشار الأسد، معمر القذافي)، فاختارت الوفاء لسياستها بالوقوف إلى جانب المطالب المشروعة للشعوب، والرهان على نتائج الحراك في الشارع لإحداث اختراق إقليمي كبير في المنطقة العربية، وربما تأسيس جبهةٍ مضادةٍ قادرة على مناكفة الغرب. لكن عودة حلف القوى المضادة للثورة حالت دون تحقيق هذا الطموح، بعد نجاح الانقلاب العسكري في مصر، واستمرار بشار الأسد في حكم سورية. ما فرض على تركيا، من حينها، التفكير بجدّية في مراجعة سياسة "القوة الناعمة"، أو على الأقل تعزيزها بشيء من "القوة الخشنة".
اختارت تركيا اعتماد "القوة الصلبة" في سياستها بشكل متدرّج، يوازي الرفع من وتيرة التصنيع في الصناعات العسكرية والدفاعية، حيث استطاعت تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعضها، وسجلت أخيرا تميزا على مستوى النوعية، بإنتاج طائرات ومروحيات وصواريخ وأسلحة مختلفة محلية الصنع. وشكلت المحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا؛ منتصف عام 2016، حافزا لتطبيق وجه آخر من أوجه هذه السياسة؛ وذلك بإقامة قواعد عسكرية جديدة في الصومال وقطر، ومساع لإنشاء قاعدة بحرية في جزيرة سواكن السودانية، تضاف إلى قواعد أخرى ذات دور وظيفي؛ في كل من سورية والعراق، يتمثل في التصدّي لأنشطة عناصر حزب العمال الكردستاني. وقد مثل هذا قفزة نوعية في القواعد العسكرية خارج البلد، فحتى وقت قريب لا وجود عسكريا لتركيا خارج أراضيها، ما عدا الوجود العسكري في شمالي قبرص الذي يعود إلى عام 1974، عندما أرسلت تركيا آلاف الجنود إلى الجزيرة بحجة حماية الأقلية التركية هناك.
كان التدخل العسكري آخر فصول دبلوماسية القوة، حين استغلت تركيا التراجع الأوروبي والتخبط الأميركي في الشرق الأوسط لصالحها، بفرض تدريجي للدور التركي في المنطقة، من خلال
التدخل بعمليات عسكرية في دول مجاورة؛ كالتدخل التركي محدود النطاق، في منطقة بعشيقة شمال العراق عام 2015، وعملية درع الفرات في سورية شهر أغسطس/آب عام 2016، لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية والمنظمات الكردية المسلحة، وعملية غصن الزيتون، مطلع عام 2018، بتنسيق مع وحدات الجيش السوري الحر، ضد وحدات حماية الشعب الكردي في مدينة عفرين الحدودية شمالي سورية. ثم أخيرا التوجه شرق المتوسط، بالتدخل عسكريا في الصراع الليبي، بناء على اتفاق مع حكومة طرابلس.
منح تفعيل القوة الخشنة في بؤر توتر عديدة تركيا فرصة للمناورة بشكل لافت بين القوى العالمية المتنافسة، وتحديدا الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وروسيا، وكأن الحكومة التركية تُكرر نهج اللعب على التناقضات الذي اتبعه السلطان العثماني، عبد الحميد الثاني، بنوع من الذكاء والإتقان. وظهر ذلك بجلاء في كيفية استخدامها أوراقا عديدة في المعارك (ورقة اللاجئين، حلف الناتو، محاربة داعش...)، حتى صارت لاعبا محوريا لا يمكن استبعاده من طاولة النقاش في مختلف القضايا المرتبطة بالمنطقة.
ويحمل الإمعان في القوة الصلبة في طياته تحدّيا مزدوجا بالنسبة للحكومة التركية، يتعلق من ناحية بوحدة الصف الداخلي، فالتصدّعات والشقوق في تزايد مستمر؛ بدءا بالمسألة الكردية، مرورا بتنظيم فتح الله غولن، وصولا إلى انسحاب قيادات ورموز من حزب العدالة التنمية أخيرا. ومن ناحية أخرى، بانقلاب هذه السياسة مع مرور الوقت، لتسلك مسلك إيران في المنطقة العربية، حين بدأ الأمر بالنصرة والدعم والمساندة لمشروعية القضايا وعدالتها، وانتهى بالولاء والتوظيف خدمة لأجندات خاصة (مذهبية وطائفية...).
استند هذا التوجه الجديد في السياسة الخارجية لأنقرة على عدة أسس، منها: مراجعة شاملة
اختارت تركيا اعتماد "القوة الصلبة" في سياستها بشكل متدرّج، يوازي الرفع من وتيرة التصنيع في الصناعات العسكرية والدفاعية، حيث استطاعت تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعضها، وسجلت أخيرا تميزا على مستوى النوعية، بإنتاج طائرات ومروحيات وصواريخ وأسلحة مختلفة محلية الصنع. وشكلت المحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا؛ منتصف عام 2016، حافزا لتطبيق وجه آخر من أوجه هذه السياسة؛ وذلك بإقامة قواعد عسكرية جديدة في الصومال وقطر، ومساع لإنشاء قاعدة بحرية في جزيرة سواكن السودانية، تضاف إلى قواعد أخرى ذات دور وظيفي؛ في كل من سورية والعراق، يتمثل في التصدّي لأنشطة عناصر حزب العمال الكردستاني. وقد مثل هذا قفزة نوعية في القواعد العسكرية خارج البلد، فحتى وقت قريب لا وجود عسكريا لتركيا خارج أراضيها، ما عدا الوجود العسكري في شمالي قبرص الذي يعود إلى عام 1974، عندما أرسلت تركيا آلاف الجنود إلى الجزيرة بحجة حماية الأقلية التركية هناك.
كان التدخل العسكري آخر فصول دبلوماسية القوة، حين استغلت تركيا التراجع الأوروبي والتخبط الأميركي في الشرق الأوسط لصالحها، بفرض تدريجي للدور التركي في المنطقة، من خلال
منح تفعيل القوة الخشنة في بؤر توتر عديدة تركيا فرصة للمناورة بشكل لافت بين القوى العالمية المتنافسة، وتحديدا الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وروسيا، وكأن الحكومة التركية تُكرر نهج اللعب على التناقضات الذي اتبعه السلطان العثماني، عبد الحميد الثاني، بنوع من الذكاء والإتقان. وظهر ذلك بجلاء في كيفية استخدامها أوراقا عديدة في المعارك (ورقة اللاجئين، حلف الناتو، محاربة داعش...)، حتى صارت لاعبا محوريا لا يمكن استبعاده من طاولة النقاش في مختلف القضايا المرتبطة بالمنطقة.
ويحمل الإمعان في القوة الصلبة في طياته تحدّيا مزدوجا بالنسبة للحكومة التركية، يتعلق من ناحية بوحدة الصف الداخلي، فالتصدّعات والشقوق في تزايد مستمر؛ بدءا بالمسألة الكردية، مرورا بتنظيم فتح الله غولن، وصولا إلى انسحاب قيادات ورموز من حزب العدالة التنمية أخيرا. ومن ناحية أخرى، بانقلاب هذه السياسة مع مرور الوقت، لتسلك مسلك إيران في المنطقة العربية، حين بدأ الأمر بالنصرة والدعم والمساندة لمشروعية القضايا وعدالتها، وانتهى بالولاء والتوظيف خدمة لأجندات خاصة (مذهبية وطائفية...).
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2024
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024