ترامب ونظرية "الرجل المجنون"

20 فبراير 2025
+ الخط -

نظرية "الرجل المجنون" إحدى النظريات التي تحكم إدارة العلاقات الدولية وأزماتها، وهي قديمة في الفكر السياسي، تعود أُسسها إلى عام 1517، عندما جادل فيلسوف الممارسة السياسية الإيطالي نيكولو مكيافيلي في كتابه "خطابات حول ليفي" بأن "التظاهر بالجنون قد يكون أمراً حكيماً للغاية في بعض الظروف"، أمّا المفهوم الحديث للنظرية فتطور خلال منتصف القرن العشرين على يد مجموعة من المفكرين الأميركيين.

مفاد الفكرة الأساسية لهذه النظرية أنّ لدى القادة الذين يتصرّفون بشكلٍ غير متوقّع أو يبدون "مجانين" فرص أكبر للضغط على خصومهم لتقديم تنازلات، وبالتالي، تحقيق مكاسب، بسبب الخوف من ردود فعلهم غير المتوقعة، أي أنّ جوهر هذه النظرية هو تبنّي مواقف جنونية وخطيرة لإرضاخ الخصوم وتخويفهم من جرّهم إلى الهاوية في حال عدم رضوخهم.

تعد شخصية الرئيس الأميركي الـ37 ريتشارد نيكسون أكثر الشخصيات ارتباطاً بهذه النظرية بشكل مباشر، وهو المسؤول عن تسمية النظرية بهذا الاسم، في حين يعد هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون، أول من مارس هذه النظرية في أثناء مفاوضاته مع الفيتناميين في باريس، إذ كان يلجأ كلما تعقدت الأمور للحديث عن عدم ضمان رد فعل الرئيس نيكسون "الرجل المجنون" الذي يجلس في البيت الأبيض، ويهدّد بأنه سيلجأ لاستئناف قصف فيتنام في أي لحظة في حال فشل المفاوضات.

نظرية "الرجل المجنون" قد تكون أداة فعالة في بعض السياقات، لكنها لم تقدّم نجاحاً مضموناً لأنصارها عبر التاريخ

ما يدعو إلى استحضار هذه النظرية عودتها إلى دائرة الاهتمام في الفترة الماضية بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية وتوليه الحكم، إذ تفيد النقاشات بأنّ سياسة ترامب وتصرفاته غير المتوقعة تمثّل اختباراً حقيقياً لنظرية "الرجل المجنون" ومدى نجاحها في الإخضاع، لتحقق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية، عبر بث الخوف والرهبة في نفوس خصومه. إذ يرى باحثون ومختصون أنّ ما يحصل اليوم في ولاية ترامب الثانية هو خليط من الفوضى غير البناءة التي تخلق حالة من عدم الاستقرار والغموض السلبي لدى الأصدقاء قبل الخصوم، وهو ما يعني أن سياسات ترامب تُمثل نموذجاً واضحاً لتطبيق نظرية "الرجل المجنون". فتهديداته على سبيل المثال بالاستيلاء على جزيرة غرينلاند وقناة بنما وتحويل كندا إلى الولاية الـ51، وتهجير سكان قطاع غزة وتحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، وكذلك فرض الرسوم الجمركية على كندا والمكسيك والصين، وفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب والألمنيوم، تُمثّل محاولة لاستعمال نظرية "الرجل المجنون" للوصول إلى غايته وأهدافه، من خلال إرباك الخصوم ودفعهم لتقديم تنازلات، والمتتبع لسياساته ونهجه التفاوضي، منذ ولايته الأولى، يدرك هذا الأمر، فهو كما بات معروفاً للقاصي والداني رجل أعمال وصفقات ويؤمن بأنّ السياسة هي فن إبرام الصفقات، لذلك عادةً ما كان يقول أشياء "فظيعة" ويراقب كيف تصل إلى المتلقي، وعندما يفاوض يبدأ مفاوضاته بمواقف متشددة، مستخدماً التهديدات والتصريحات الصادمة كأدوات تفاوضية، بهدف تحقيق أقصى قدر من المكاسب، وصولاً إلى عقد صفقة تحقق له الهدف المنشود.

سياسات ترامب تُمثل نموذجاً واضحاً لتطبيق نظرية "الرجل المجنون"

وعليه، يمكن وضع كل تصرّفاته وخططه "المستفزة" وغير الواقعية، ولا سيما ما تعلّق منها بتهجير سكان قطاع غزّة إلى الأردن ومصر، وتحويل القطاع إلى ما وصفه بـ"ريفييرا الشرق الأوسط"، وتحويل كندا إلى الولاية الـ51، واحتلال جزيرة غرينلاند، في إطار الاستفزازات والضغوط أكثر من أنها تهديدات حقيقية، فمثل هذه الطروحات، رغم عدم واقعيتها، قد تساهم في إعادة تشكيل موازين القوى في التفاوض، وإيجاد واقع تفاوضي جديد، وإعادة هندسة الأولويات بما يتوافق مع المطالب والمصالح الأميركية.

ختاماً، يمكن القول إنّ نظرية "الرجل المجنون" قد تكون أداة فعالة في بعض السياقات، لكنها لم تقدّم نجاحاً مضموناً لأنصارها عبر التاريخ. فنيكسون على سبيل المثال لم ينجح في إقناع الفيتناميين والسوفييت بجنونه، واضطر في نهاية المطاف إلى الانسحاب من فيتنام، كما أن ترامب نفسه، رغم اعتماده المتكرر على هذه النظرية في ولايته الأولى، لم يحقق دائماً النتائج المرجوة، بل وجد نفسه في حالات كثيرة مضطراً إلى التراجع أو التفاوض بعد تصعيده الأولي، ففي علاقاته مع كوريا الشمالية في ولايته الأولى هدد بمحو بيونغ يانغ من الخريطة، إلا أنّه، في نهاية المطاف، عقد قمة ودية مع زعيمها كيم جونغ أون، كما تبنّى تكتيكاً مشابهاً مع الصين، فبعد فرض رسوم جمركية قاسية وتهديدات اقتصادية، دخل لاحقاً في مفاوضات انتهت بإبرام اتفاقيات تجارية جديدة، لذا لا يجب دائماً أخذ تصريحات ترامب "النارية" وكلامه "المنفلت" على محمل الجد على اعتبار أن بعضها يدخل في سياق تطبيق نظرية "الرجل المجنون" للترهيب والتخويف والضغط، ومع ذلك فإن إصرار ترامب على تطبيق نظرية "الرجل المجنون" من الممكن أن يغرق العالم كلّه في الفوضى والصراع على عكس ما يزعم أنه يسعى إليه، وهنا يبقى السؤال الأهم: هل ستظلّ هذه النظرية فعالة في عالم اليوم، حيث باتت الدول أكثر وعياً بهذه التكتيكات وأكثر قدرة على إدارتها؟ أم أنّ الإفراط في استخدامها قد يحوّلها إلى مجرّد استعراض سياسي يفقد تأثيره بمرور الوقت؟