ترامب والدبلوماسية السحرية

24 فبراير 2025
+ الخط -

اكتسح دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وصار رئيساً لها منذ يناير/كانون الثاني 2025، وجاء إلى البيت الأبيض مُبتدراً دورته الرئاسية بما لم يتعوّد الأميركيون أن يسمعوه من أيّ رئيس سابق. لم يتوقّع الديمقراطيون، الذين خسروا الانتخابات الرئاسية، أن الرجل سيكون رؤوفاً بالرئيس الذي سبقه في البيت الأبيض، إذ لا يعدو حفل توليه الرئاسة مناسبةً مراسمية لأداء القسم، وتوديع من سبقه، وليس فرصةً للانتقاد والإساءة. وقف الرجل وجمع من الرؤساء السابقين حضور يجلسون خلفه، فإذا بلسانه لا يكفّ عن الهجوم على من سبقه، واصفاً سياساته وسياسات حزبه الخاسر بالغباء، وأنه جاء ليعيد العظمة لأميركا، بعد أن أضاعها سلفه. حتى في مناسبة مراسمية محضة، عبّر عن رغبته في الانتقام من سلفه، والاستخفاف بسياساته، بما عكس مرارةً أحسّها طيلة السنوات الأربع، التي فاز فيها الرئيس السابق بايدن في انتخابات 2020.

يريد ترامب أن يكون ذلك البطل الشعبي في السياسة الأميركية

(2)
نوازع الانتقام من رئيسٍ مقبل تجاه رئيس مغادر سابقة لم تشهدها أيّ انتخابات للرئاسة الأميركية، فحملت بعداً شخصياً تجاوز الخلافات السياسية بين الحزبَين الديمقراطي والجمهوري، للدرجة التي يزعم أن نجاته مـن محاولة فاشلة لاغتياله، هي إشارة من الرّب، فيتاح له استعادة عظمة الولايات المتحدة التي أضاعها سلفه. تلك هي الروح ذاتها، التي شاهدتها جماهير السينما الأميركية في أفلام رعاة البقر القديمة، تلك التي ينتصر فيها البطل على الخائن، ليكسب رضا المشاهدين وينال إعجابهم، فتزيد شعبية البطل، ويعلون من شأنه، فلا يتذكّرون مَن الخائن وما اسمه. ومثلما يتذكّر جيل الخمسينيّات من المتابعين لأفلام هوليوود السينمائية، "جاري كوبر" و"جون وين"، وشعبية أدوارهم، فإن دونالد ترامب يريد أن يكون ذلك البطل الشعبي في السياسة الأميركية. تلك التي في ظاهرها مثلٌ للشعبوية التي تستميل البسطاء، وتستعدي من هم أكثر وعياً، وأعمق إدراكاً.
(3)
أين يطرح الرئيس الأميركي مقترحاً بعد دمار غزّة خلال الحرب القاسية التي استهدفت إجلاء الفلسطينيين من قطاع غـزّة، رأى بعيون مستثمر اسـتغلالي أن يجعل من تلك الأرض الفلسطينية، منتجعاً ساحراً يطلّ على البحر المتوسّط، لكن عـينيه عميتا عن الضحايا من آلاف الرجال والنساء والأطفال، الذين طحنتهم الحرب، ودفنوا تحت ركام الدمار. أمّا وزير خارجيته ماركو روبيو، الذي وصف الفلسطينيين بأنهم "وحوش"، يرى أنْ تبقى إسـرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وأن يذهب الفلسطينيون "الوحوش" إلى الفناء، وحلّ الدولتَين إلى النسيان.
يتساءل بعضُ عقلاء، وهم إلى تناقص في عالم تأكله الصراعات، هل هؤلاء الذين يحكمون الولايات المتحدة، ويحلمون بعيون مفتوحة للسيطرة على العالم، قرأوا التاريخ القريب أو البعيد؟ وهل سمعوا بمعاهدة اسمها "سايكس - بيكو"، التي مهّدت لمنح فلسطين أرضاً لا يملكها موقّعوا تلك الاتفاقية لمن لا يستحقّونها من بني صهيون، وهم في شتاتهم التاريخي؟
(4)
ما اقترحه الرئيس العُصابي ترامب، رؤية اعتمدها لما بعـد دمار غـزّة، أذهل حتى بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل. حين حكم الأتراك السودان بين 1820 و1885، واسـتخدموا بعض السودانين لمساعدتهم في الحكم، عاملوا بني جلدتهم بقسوة فاقتْ قسوة الحكام الأتراك، فقالوا: "التُـركي ولا المُتورك"، تحسُّـراً على معاملة الأتراك الأقلّ قسوة.
ضحك نتنياهو ملء شدقَيه، إذ أسمعه ترامب ما لم يخطر بباله، بل ولا ببال مَن ذهبـوا إلى مزبلة التاريخ ممّن صـاغوا اتفاقيةً منحتْ حقاً لا يملكونه لمـن لا يستحقونه. لقد رأى نتنياهو رئيساً أميركياً أكثر "إسرائيلية" مـنـه. من حقّ كلِّ متابع لمواقف الإدارة الأميركية الحالية، التساؤل إن كان من يطرحون حلولاً لقضية الشرق الأوسط الرئيسة في منابر الرئاسة الأميركية، هم على إدراك بتعقيداتها، أو إنْ كانوا مطّلعين على أدبياتها، منذ سـنوات الحربَين العالميتَين الأولى والثانية، وإلى ما بعد سنوات اتفاقيتَي كامب دافيد، مثل مخرجات "أوسلو"، ومخرجات مؤتمر القمّة العربية عن حلِّ الدولتَين.
(5)
كان واضحاً أنَّ الإدارة الأميركية التي يقودها ترامب منذ يناير 2025، ومقدّر لها أن تمتدّ إلى السنوات الأربع المقبلة، سـتنحو (حكماً على ما نرى) منحىً اسـتعراضيّاً شعبويٍّاً، لا يعبأ فيما يبدو بالتحليلات المعمّقة ولا بالدراسات النظرية حول القضايا التي تنوي تلك الإدارة اتباعها لاستعادة "عظمة أميركا"، تلك التي ادّعت أن الإدارة السابقة قد أهدرتها. الشعبوية تعرّفها القواميس بالعداء للتفكير المعمق، والبعد عن التناول السطحي، أو هي التماهي مع اقتدار الصفوة، لا مع بساطة القطيع.
لك أن تنظر إلى رئيسٍ يدير أحوال أكبر دولة، ليسَ من مكتبه، بل في صالة البيت الأبيض، ليتسنّى لكلِّ أجهزة الإعلام الأميركية والعالمية من تغطيتها عبر "الفرمانات"، التي يوقّعها أمام آلات تصوير الفضائيات، ويتلقّى عبرها أسئلة الصحافيين. أمّا من يتجرّأ منهم ويعلّق سلباً، مثلما فعل ممثّل "أسوشييتد برس"، أو كلّ من "يتطاول"، فإنّهُ يُطرد، ويُمنع من حضور تمثيلية إدارة الرئيس الشعبوي لأمور دولته.

عميتْ عينا المستثمر الاستغلالي ترامب عن رؤية الضحايا من آلاف الرجال والنساء والأطفال، الذين طحنتهم الحرب، ودفنوا تحت ركام الدمار

(6)
فيما لم يُكمل الشهرين في إدارته، أقدم الرئيس الأميركي على إرسال تصريحاتٍ تهـدّد جيرانه حول جدارٍ عازل في حدوده الجنوبية، أو حول استفسارٍ لِمَ لا تكون كندا ولايةً أميركية؟ أو لماذا لا تكون غرينلاند أميركية؟ ثمّ ما المشكلة إن صار اسم خليج المكسيك خليج أميركا؟
أمّا الأمم المتحدة، التي لم يكتفِ بتجاهلها تماماً إزاء مهامها الأساسية، مثل حفظ السلم والأمن الدوليين، فقد أعلن الرئيس الشعبوي انسحاب بلاده من عدد من أهم أذرعها الدولية، وجمّد مساهماتها فيها بما أضعف فعّاليتها، وألحقها بانسحابه من اتفاقية المناخ، والهجوم على المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، والتوجّه لتقليص المعونة الأميركية، وما خفيّ ممّا يضمر الرّجل سيكون كارثياً لا ريب. أمّا ملف إيقاف الحروب المشتعلة في أصقاع العالم، فهـو القادر على حلّها في سويعات، فما بقي له إلا أن يقول: وهل من حاجة أصلاً لمنظمة أممية، لا تملك من فعّالية تذكر؟
يُبشِّر الرئيس دونالد ترامب بدبلوماسية من ابتداعه، هي الدبلوماسية السحرية، أعان الله العالم على تحمّل تجلّياتها وتداعياتها.

FCB63EC0-50DC-4B63-9E51-1417E18520D5
جمال محمد إبراهيم

كاتب سوداني وسفير سابق