ترامب الطامع بنوبل للسلام

ترامب الطامع بنوبل للسلام

11 أكتوبر 2020
+ الخط -

يقول باري فيلدمان من شركة كيسمتريكس: انطلق التسويق بالمحتوى واستمر في الازدهار لسبب واحد بسيط للغاية: لأنه ما يرغب فيه الناس. وما يرغب فيه الناس، صار إحدى القضايا الأهم، ويمكن القول إنه القضية الأولى بالنسبة إلى عصرنا الحالي الذي تحكمه وتتحكم به رؤوس الأموال والشركات العابرة للقارّات التي منتهى وغاية أهدافها هو الربح، ومزيد من الربح، في حلقةٍ تنغلق على نفسها، ولا يمكن الخروج منها، ويصبح المال والسيطرة متلازميْن لا فكاك بينهما.

من أجل تحقيق هذا الأمر، صار هاجس العالم المتحكّم هذا هو تصنيع رغبة الناس وتوجيه اهتمامهم إليها، وصناعة رأي عام وتوجه عام نحوها، وهذا ما وفّرته الثورة الرقمية والتقنيات والتطبيقات فائقة الأداء والذكاء، وليست صناعة المشاهير والشخصيات النافذة في العالم بعيدة عن هذا الأمر، ومنها صناعة الزعماء أو الرؤساء أو القادة أو المؤثرين. وقد يمكن اعتبار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نموذجاً حيّاً ودامغاً على ذلك. هذه الشخصية التي دأبت على خطف الأنظار والأضواء وإشغال الرأي العام في العالم كله، وليس فقط في أميركا منذ وصوله إلى الرئاسة، بل يمكن القول، منذ خوضه المنافسة عليها، وجديد أفلامه التي شغلت العالم، وما زالت، إصابته بمرض كوفيد 19، والقدرة الخارقة التي روّجتها وسائل الإعلام على مقاومته المرض، وتجاوزه مرحلة الخطورة، وعودته إلى مكاتبه في البيت الأبيض، ليبقى ملتصقاً بواجباته الرئاسية وممسكاً دفة قيادة المرحلة الإنتخابية والمنافسة مع الديموقراطي جو بايدن.

صناعة الشخصيات وصناعة الرأي العام، قضية هامة، ومن صلب صناعة السياسة الأميركية التي لا يحدّدها الرئيس، على الرغم من صلاحياته، بل تحدّدها الدولة العميقة

وفي الولايات المتحدة، صناعة الشخصيات وصناعة الرأي العام قضية هامة، ومن صلب صناعة السياسة الأميركية التي لا يحدّدها الرئيس، على الرغم من صلاحياته، بل تحدّدها الدولة العميقة المكونة من توليفةٍ خاصة من الأقوياء، من أصحاب الأموال والشركات والجيش واللوبيات وغيرها. ولذلك، تعمل أدوات الدولة العميقة دائماً على صياغة وعي ينجم عنه رغبة عند الناس، وميل إلى انتخاب شخص ما رئيساً، أي يُعمل على انتخاب رئيس "مصنّع" بواسطة الشعب. ولكن في النهاية هناك سياسة أميركية متجذّرة وذات أهداف محدّدة، لا يعدو دور أي رئيس أن يكون أكثر من محاولةٍ لإعادة ضبطها وفق المعايير المطلوبة والمنشودة، وما زال في البال كيف جرى التهليل لباراك أوباما رئيساً من الشارع العربي والإسلامي، جرّاء خطابه عن التغيير في سياسة بلاده تجاه أمور تهمّ هذه البلدان، كالتدخل العسكري في أفغانستان والعراق، أو بالنسبة إلى الصراع العربي الإسرائيلي. لكن ما الذي تغيّر؟ ما تغيّر هو كاريزما الرئيس، بينما المشاريع العريضة تبقى هي المطلوب إنجازها، ولكل رئيس بصمته. وبصمة الرئيس الحالي، ترامب، هي شخصيته الشعبوية العبثية العلنية في الوقت نفسه، البارعة في اختطاف الأضواء، وإثارة قضايا تجعله يحتل المشهد، بينما القضايا الكبيرة تبقى في الظل، أو خلف العناوين والصور المثيرة. 

هذا الرئيس الطامح إلى جائزة نوبل للسلام، التي خطفها منه برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، صرّح مرات عديدة عن استحقاقه لها بحسب رأيه، ليس هذا فحسب، بل من طريق الاستخفاف بمؤهلات غيره ممن نالوها، كنظيره الرئيس السابق أوباما، إذ قال عن أوباما: هو نفسه لم يعلم لمَ حصل عليها، كان هذا لمدة خمس عشرة ثانية ونال الجائزة. مضيفاً: قد لا أحصل عليها أنا أبداً.

لكن الفرص لم تضع بالمطلق عن ترامب، فها هو النائب في البرلمان النرويجي، كريستيان تيبرينغ - غيدي، يرشّحه لعام 2021 لرعايته اتفاق التطبيع بين إسرائيل والإمارات، المشروع الذي تابع الإشتغال عليه الرئيس ترامب وصهره جاريد كوشنير منذ وصوله إلى الرئاسة، وهو جزءٌ من مشروع صفقة القرن، أو العنوان الأكبر، الشرق الأوسط الجديد. وسنشهد، تزامناً مع الربيع العربي منذ انطلاقه في عهد أوباما، وما تلاه من دمار وخراب دول وانهيار مجتمعات وزيادة نفوذ واحتلالات إقليمية ودولية لدول المنطقة، ازدهار مشروع ترامب، وتسارع خطواته وتهافت الأنظمة العربية عليه، من دون استثناء. وهذا ما يؤكد أن السياسة الأميركية تقوم على أسس ثابتة، وليس على قرارات رئيس أو شخص بالدرجة الأولى. ويمكن القول إن الانتخابات هي من وجوه اللعبة، فالمرشّح، أي مرشّح، لديه عناوين عريضة يشهرها للجمهور، أولها مخاطبة روح الأمة، وإظهار الحرص على المصلحة القومية لأميركا كمنارة لأي سياسة سيتبعها. أما الحملات الانتخابية، فلا تعدو أن تكون إثارة للمشاعر. وقد رأينا في المناظرة التي أجريت بين المرشحين، بايدن وترامب، كيف سعى كل واحد إلى كشف عيوب منافسه وتضخيمها ومحاولة تحريض الشعب عليه بكل الوسائل، وخصوصاً ترامب، بشخصيته الاستفزازية والعدوانية والبهلوانية. فهذا الخطاب موجّه إلى التأثير في عواطف المواطنين ومشاعرهم، وخصوصاً البسطاء منهم، وكسب أصواتهم من أجل الفوز. أما السياسة والاستراتيجيات، ففي مكان آخر.

تقوم أميركا على المال والنفوذ والقوة والسيطرة وصنع السياسات التي تحكم العالم على أنظمة اقتصادية متينة، تنسحب على مجمل مناحي الحياة، ومنها الحياة السياسية

تقوم أميركا على المال والنفوذ والقوة والسيطرة وصنع السياسات التي تحكم العالم على أنظمة اقتصادية متينة، تنسحب على مجمل مناحي الحياة، ومنها الحياة السياسية. وتعتمد إحدى وسائلها على تسويق المحتوى، حتى في السياسة، فتوجّه الشركات المتخصصة المستهلك، وتؤثر في القرارات التي يتّخذها، ومنها صناعة القادة والرؤساء، وترامب واحد من هؤلاء. ربما هذه الشركات التي تستثمر في هذا المجال تشتغل على قاعدة بيانات هامة، لديها القدرة على تجميعها وتحليلها واستخدامها، ليس فقط في ما يتعلق في هذا المجال، بل في مجال صناعة السياسات، وتغيير الواقع في المناطق التي تستهدفها السياسة والإستراتيجيات الأميركية، كمنطقتنا العربية، وواقعنا المدمّر والمنذر بمزيد من الدمار والإنهيارات مثال صارخ على ذلك.

يقول النائب ذاته الذي رشّح ترامب: ليست الشخصية هي التي تقرّر ما إذا كان شخص ما سيفوز بالجائزة، ولكن ما أنجزه الشخص حقاً لتحقيق السلام في العالم. فهل ما تحققه الإدارات الأميركية المتعاقبة هو فعلاً سلام؟ أم هو صناعة مصائر وتذويب قضايا محقة ومحو هويات؟ ليس مشروع ترامب وحده تقسيمياً، بل التقسيم عمره أكثر من قرن في المنطقة، وهو نتيجة حربٍ عالميةٍ، كانت نتيجة أزمة الإقتصاد العالمي وسياساته وقواه العظمى، وكذا التركة التي تركتها الإمبراطورية العثمانية المترهّلة الشائخة، فتوزعتنا القوى المنتصرة، وبعدها فعلت فعلها الحرب العالمية الثانية، ورحنا مرة أخرى في بازارات الصراع والحرب الباردة. ولم يلحق المشروع النهضوي أن يبصر النور، حتى أجهضته الإنقلابات العسكرية والأنظمة القمعية المرتهنة لقوى الخارج التي أنتجت دولاً فاشلة، همّ أنظمتها البقاء في العروش مهما كان الثمن، حتى لو كان توقيع اتفاقيات تطبيع من دون حلّ أيٍّ من مشكلات المنطقة، بل من دون الالتفات إلى حقوق الشعوب في الحياة على أرضها. دول فاشلة تديرها أنظمة غير قادرة على إنجاز تطبيع بينها وبين شقيقة لها مهما كانت قريبة، لكنها تطبّع مع كيان محتل، وتناصر قوىً على حساب مصلحة شعوب في دول عربية أخرى.

صرّح ترامب مرات عديدة عن استحقاقه جائزة نوبل للسلام. ليس هذا فحسب، بل من طريق الإستخفاف بمؤهلات غيره ممن نالوها

إنّ من يتابع رأي الشارع العربي، يرى الضياع الكبير وعدم القدرة على فهم ما يحدث، فقد أنهكته الحروب والجوع والفقر والتشريد وانعدام الأفق والمستقبل. وبرعت السياسات الغربية، عقوداً طويلة، في تكريس هذا الشعور بالانقسام والتمسّك بهويات ضيقة، تنتمي جغرافياً إلى عوامل وأولويات محلية. لم تعد هناك قضايا كبرى، حتى لو بقيت الأنظمة تنفخ في أبواقها، ولم يعد المواطن العربي يؤمن بها إلا لكونها جرحاً نزف على مدى عقود، حتى وصلت الشعوب إلى الرمق الأخير، ولم تعد قادرة على احتمال النزف. هذا هو الوعي الذي صنعته المؤسسات العالمية، مسنودة بوكلائها المحليين، الوعي المكتئب الموتور المقهور، فاقد الثقة بأنظمته ومعارضيها، الساعي إلى الخلاص بأي ثمن. ومن علامات التقسيم المريعة، التي لن يكون محوها أمراً سهلاً في المدى المنظور، أن العدو الحقيقي لم يعد إسرائيل، بما تمارسه بحق الشعب الفلسطيني من احتلال وقضم أراضٍ وسطوة على التاريخ والمستقبل ومحو الهوية الفلسطينية، بل صار هناك أعداء آخرون تتفاوت الأولوية في مواجهتهم بين منطقة وأخرى، أعداء في الجوار وأعداء قادمون من كوكب آخر، كوكب القوى العظمى المتصارعة من أجل السيطرة على العالم. بينما يعتب ترامب، الشخصية البهلوانية، لأنه لم ينل جائزة نوبل إلى اليوم. سينتظر وسيستمر المشروع الأميركي في مسعاه، وليس مستغرباً أن يحظى ترامب بنوبل السلام.