ترامب الثاني يُربك أوروبا
السيناريو المفزع الذي كان قادة أوروبا يخشونه تحقق. ها هو دونالد ترامب رئيساً للمرّة الثانية لأميركا، بعد فاصل مثير للجدل دام أربع سنوات تربّع خلالها الديمقراطيون، في شخص جو بايدن، على كرسي المكتب البيضاوي، الذي أخلاه لهم ترامب، يومها، على مضض، مهدّداً بالانتقام منهم شرّ انتقام، وها هو قد فعل. عاد رئيساً متوّجاً بفوزٍ ساحقٍ مدعومٍ من قاعدة شعبية شعبوية واسعة ترى فيه المنقذ من وضع داخلي سيئ ومن سياساتٍ خارجية مكلفة. إذا ما استثنيا قلّة من قادة أوروبا، بينهم رئيسة وزراء إيطاليا ورئيس وزراء المجر، المأخوذيْن بالنموذج الترامبي، فإن أوروبا، بما فيها ذراعها العسكري الضارب، حلف الناتو، أمام تحدّيات كبرى تفرضها ولاية "ترامب الثاني"، منها أنّ وجود ترامب في البيت الأبيض أربع سنوات مقبلة سيعطي زخماً للتيارات اليمينية الشعبوية في هذه البلدان، وقد يقرّبها من الوصول إلى السلطة. وهذا، وعلى سبيل المثال، ما تخشاه النخبة الحاكمة في ألمانيا من صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي السعيد بعودة ترامب.
هناك تحدّيات أشدّ خطورة على أوروبا أن تواجهها. سيدير ترامب سياسة أميركا، حتى في علاقتها مع حلفائها التقليديين، بذهنية رجل الأعمال، لا بذهنية السياسي. سيفرض رسوماً جمركية على البضائع الأوروبية، تنتج عنها عواقب مكلفة، وسيفرض على الأوروبيين دفع حصص مالية أكبر لديمومة "الناتو" في أداء الملقى على عاتقه من مهام، ولسان حاله يكرّر ما سبق أن قاله مراراً: "إلى متى سندافع عن أمنكم لقاء لا شيء؟، ولماذا على أميركا أصلاً أن تدافع عنكم، ولماذا لا تتدبرون أمر أمنكم بأنفسكم؟".
ليس هذا وحده ما يخيف أوروبا في تهديدات ترامب التي ستصبح واقعاً، فهو يريد، أيضاً، إيقاف الدعم الأميركي لأوكرانيا في حربها مع روسيا، وسبق له أن سخر أكثر من مرة من الرئيس الأوكراني، زيلينسكي الذي كان يعود إلى كييف بعد كل زيارة له إلى واشنطن محمّلاً بحُزم مالية هائلة من الدعم الأميركي السخي الذي أنعمت عليه به إدارة بايدن. يرى ترامب في ذلك عبثاً، أموال مثل هذه يجب أن تبقى في أميركا، وتستثمر فيها، لا في تمويل حرب يراها خاسرة منذ البداية، ومكرّراً القول إنها ما كانت ستقوم لو أنّه كان رئيساً. وقف المساعدات الأميركية لكييف يعني حملها حملاً على قبول تسوية مذلة، فأوروبا، المتخبّطة في أزمات مالية وسياسية داخلية، كما هي حال ألمانيا اليوم مثلاً، عاجزة وحدها عن تأمين دعمٍ كاف يمكن أوكرانيا من مواصلة الحرب، ما يجعل القارّة العجوز مرعوبة أمام التحدّي "البوتيني" التالي.
وبذهنية رجل الأعمال أيضاً أعاد ترامب الانسحاب الأميركي من اتفاقية المناخ، ومن منظمة الصحة العالمية، وقد تلا ذلك انسحابات من أذرع أخرى تابعة للأمم المتحدة في مجالات مختلفة، مُكرّراً السؤال الذي يطرب قاعدته الشعبية، والطغمة الأوليغارشية المحيطة به: "لماذا علينا أن ندفع كل هذه الأموال؟"، متجاهلاً حقيقة أنّ تلك هي ضريبة الدور العالمي الأول الذي أرادته أميركا لنفسها، وهو دور لم يعد يعني الرجل المأخوذ بشعار"أميركا أولاً"، موشكاً على إضافة: "وسواها إلى الجحيم"، بل إنّه بات يجاهر بسياسات كولونيالية جديدة افترض العالم أنها باتت ماضياً، من علاماتها مطالبته بضمّ قناة بنما وغرينلاند، وتهديداته كندا، التي لم يجد حرجاً في أن يقترح عليها أن تصبح ولاية أميركية جديدة!
تدرك أوروبا تبعات كل ما يقوله ويعمله ترامب. في الدولة الأوروبية الأقوى اقتصادياً، ألمانيا، حذرت غرفة الصناعة والتجارة هناك من العواقب الوخيمة التي ستنجم عن الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة على الاقتصاد الألماني، كون ربع فرص العمل في ألمانيا يعتمد على الصادرات، ونصفها في مجال الصناعة. ورغم أنّ مسؤولين أوروبيين هدّدوا بإجراءات مضادّة في حال فرض ترامب رسوماً جمركية عليهم، لكنها تهديداتٌ لا يبدو أنّ ترامب يأخذها على محمل الجد، كما لا يأخذ على محمل الجدّ أيضاً التحذيرات من تبعات انسحاب أميركا من "اتفاقية باريس لحماية المناخ" على وضع البيئة العالمي والاحتباس الحراري الآخذ في مزيدٍ من التدهور، فليس غائباً عن ذهن ترامب أنّ موضوع البيئة، رغم الخطابات الرنانة لقادة أوروبيين حوله، يأتي في أسفل قائمة برامجهم، سواء في حملاتهم الانتخابية أو في سياسات حكوماتهم.