ترامب آخر وتحدّيات جديدة
القلق هو السمة الرائجة لتسلم الرئيس الأميركي دونالد ترامب مهامّه الرسمية في البيت الأبيض، ما يلقى الاهتمام الكبير عبر المحيط الأطلسي، رمزاً للحرية اللامحدودة التي يتمتع بها الرجل في سعيه ٳلى تجسيد رئيسٍ يحكم العالم، وأكثر من أي شيءٍ يكره أن يكون ضعيفاً. في صورة أكثر واقعية للحالة المتحدّدة حول شخصه، وليس السياسة التي يدخُل فيها العالم والتحدّيات التي تواجهه.
لن يكون العالم كما كان، وتحمل الصورة في البيت الأبيض تساؤلاتٍ بشأن المستقبل من دون ٳجابات واضحة حول أوضاع صعبة وخطرة من ضمن تماثلاتٍ تحمل معنى التخيّل المتهالك لتقلبات العالم واهتزازاته ولسرعة التحولات التي تحتوي على تجار أحرار، أبطال الشركات الرقمية الجشعة، وقد فعل ترامب الكثير لاسترضائهم، ومؤيدين للتعريفات الجمركية العالية، والانعزاليين الأكثر ٳثارة وقلقاً بالنسبة للاقتصاد الأميركي وحلفائه.
هذه مشكلة الديمقراطية في أميركا في حصول الأغلبية على ما تطلبه. لكن العالم صار كأنه الولاية 51 الأميركية، ويشعر برعبٍ لا يأتي من فراغ تحت تأثير الأحداث غير المتوقعة التي لا ترد في أي حسبان. ويحاول ترامب ان ينهض شاهداً على قدرة الولايات المتحدة على استرداد العافية واسترجاع القدرة في فرض العقوبات والضغوط الاقتصادية، كنيّته ضم كندا وتجويعها، وأحاديثه التوسّعية في الأسابيع الأخيرة عن سيطرة الولايات المتحدة على غرينلاند، وأيضاً الاستيلاء على قناة بنما. ومن المواجهات العسكرية المحتملة إلى حرب تجارية مكلفة قد تزعزع اتفاقية USMCA، وتأثير عمليات الترحيل الجماعي مع المكسيك ودفع العلاقات الثنائية نحو أزمة شاملة، ومثلها نقاشات في كوريا الجنوبية واليابان وتايوان وفي آسيا وأفريقيا.
يناقش السياسيون ما ٳذا كان ينبغي أخذ هذه التصريحات على محمل الجد، أم مجرّد "مزحة"، تطاول من هم في الخارج، أو أنها ٳلهاءات الناخبين الأميركيين حين يتعلق الأمر بركود مستويات المعيشة للناس العاديين، التغييرات الثقافية والديمغرافية الواسعة، عكس اتجاه التضخّم، فرض رسوم جمركية، الضمان الاجتماعي وٳدارة التعليم، حماية الهواء والمياه النظيفة. وقد يدركون عمق ما يخفيه في وعوده، ومخاوفه على المليارديرات التي لها الأسبقية/ الأوليغارشية الرقمية (جو بايدن).
قد يكون مزاج ترامب من اللامبالاة والكبرياء الأثر الأكبر على الصين. سيستشعر بالغضب ٳذا اضطرّ للدفاع عن تايوان
سيؤدّي شن الحروب والعدوانية غير العادلة لتحقيق الأهداف الٳمبريالية الجديدة ٳلى تفريغ ميثاق الأمم المتحدة وقاعدة المساواة والسيادة وحرمة الحدود، حيث ترك الباب مفتوحاً لاستخدام القوة العسكرية، ما يكسب حقاً عالمياً مريراً لانتشار المظالم وزيادة تآكل احترام سيادة الدول الأخرى.
سيحاول العالم أن يتبع المسار المعاكس من التعاونات والضرورات وإيجاد القواعد الجديدة، ما يظهر أن جزءاً بات منفتحاً على هذا النوع من النداء الشعبوي "أميركا أولاً"، الذي لديه قواسم مشتركة مع أحزاب القادة الشعبويين في العالم. والنتيجة أن هذا العالم الجديد اجتماعي أكثر مما هو سياسي، وبشيءٍ من الفزع من ٳعادة طرح مسألة العنصرية والهجرة والانكفاء على الهوية، ومما يتعدى الحرب "الكلاسيكية" التي ولّى زمانها، والحدود لا تعود، لأنها تختفي مطلقاً في قواعد حرف العلاقات الدولية وتحديد أكباش فداء. فتصريحاته الأخيرة تعطي الضوء الأخضر للرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ لتحقيق أحلام ٳمبريالية ضد أوكرانيا ودول البلطيق وتايوان وغيرها من الجيران الأضعف والدول الحديثة بمبادرة الحزام والطريق الصينية.
قد يكون ترامب الثاني كارثياً، أو قد يكون مجرد ضجيج كبير. ولكن من المؤكد أن فترة ولايته الثانية ستشكل اضطراباً، ومن المحتمل أن تحدث تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية، وهو لا يرث عالماً يسوده السلام أو الهدوء المستدام مع سلسلة من الأزمات العالمية غير المحلولة، نهاية داعش، حظر الهجرة، الٳهانات العربية والأفريقية، الخروج من الاتفاق النووي الٳيراني، وتلك العلاقة الغريبة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
من السذاجة الحسم أن الأمور ستسير بهدوء، وأن ترامب لن يجلب معه مجموعة جديدة من الأزمات والمشكلات العالمية
بينما تحالف ترامب مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد لا يعود بالفائدة على الأخير. قد يجد ترامب غرائزه الأوسع من خيارات ٳسرائيل. لا شك أن نتنياهو قد أتمّ ما يخصه من مهام ٳقليمية بعد الهجمات الوحشية البربرية في لبنان وغزّة، وقد يجد نظيره الأميركي الجديد أقل استعداداً لدعم أي هجمات جديدة. لكن، قد لا تدرك الإدارة الأميركية الجديدة حجم التحوّلات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وأن الأدوات المستخدمة في التطبيع الإسرائيلي- العربي والضغط الأقصى ضد إيران، قد تكون أكثر احتمالاً لزيادة المخاطر والصراعات، بدلاً من حلها مع منح ترامب الضوء الأخضر لإسرائيل بضم الجولان السوري والضفة الغربية جزئياً أو كلياً، ومعها نهاية التطبيع السعودي-الإسرائيلي وظهور مجموعة جديدة من الصراعات الإقليمية.
قد يكون مزاج ترامب من اللامبالاة والكبرياء الأثر الأكبر على الصين. سيستشعر بالغضب ٳذا اضطرّ للدفاع عن تايوان. ومع ذلك، فإن رؤية ترامب نفسه صانع صفقاتٍ قد يكون لها جانب إيجابي لإقناع الصين ضد زيادة الإغراق، وإبرام صفقة مع إيران لخفض التوترات الإقليمية. ومع ذلك، من كوريا الشمالية إلى الصين إلى أفغانستان، والقوى الإقليمية الحاسمة مثل نيجيريا وباكستان والهند، والدول النامية الأكثر فقراً. إذا جرى استقرارها، فقد تصبح ركيزة حاسمة، وإذا فشلت ستصبح مراكز للاضطراب.
أول قرار سيكون الأهم والأكثر خطورة بالنسبة لترامب هو بشأن استمرار دعم الولايات المحتدة أوكرانيا. أي صفقة ستتطلب على الأرجح قبول كييف لتنازلات ٳقليمية (الحرب غير أبدية)، ما يقلّل قدرة أوكرانيا على العمل دولة ذات سيادة، ويدفع أوروبا إلى الدفاع عن نفسها من دون مساعدة من الولايات المتحدة.
ٳذا كان التاريخ دليلاً، فٳن الهدف الرئيسي للعصب السياسي الخارجي لترامب لن يكون الصين أو روسيا أو كندا أو ٳيران، بل سيكون تقويض النظام القانوني الدولي نفسه في مسائل عدة
من السذاجة الحسم أن الأمور ستسير بهدوء، وأن ترامب لن يجلب معه مجموعة جديدة من الأزمات والمشكلات العالمية. يعني هذا أن على العالم أن يكون مستعدّاً للتعامل مع القضايا نفسها بتركيز أساليب وأولويات مختلفة. قد يثبت ذلك كارثياً للنظام العالمي الجديد والديمقراطية الغربية ككل، أو قد يجبر المجتمعات والتحالفات الإقليمية على تبنّي روح جديدة من التسوية.
ٳذا كان التاريخ دليلاً، فٳن الهدف الرئيسي للعصب السياسي الخارجي لترامب لن يكون الصين أو روسيا أو كندا أو ٳيران، بل سيكون تقويض النظام القانوني الدولي نفسه في مسألة المناخ، والتجارة الدولية، وحظر الهجرة، والزيادة الهائلة في التعريفات الجمركية على المنتجات الغربية. كل شيء يمتزج بالنظرة التي تركز باستمرار على الشاطئ الآخر للمحيط الأطلسي، والتي تزرع النفور عالمياً.
يبقى أن الأوضاع التي يراها ترامب بسيطة نسبياً، ٳلا أن يكون قد اختزلها نفسه وبسّطها لدعم الاستقراء أن العالم الترامبي لا يقبل ٳلا زعيماً واحداً يعيد رسم ٳطار الاشكال الجديدة للسيطرة الدولية في حقبة "ما بعد الهيمنة"، وتحديثها بما يهدّد الأعراف الديمقراطية. ومن الممكن أن يشكل الدفع المدعوم من إيلون ماسك نحو الذكاء الاصطناعي تطوّراً مهماً، يشعر المحللين الماليين بالقلق من إقطاعية عالمية جديدة خارج معايير وإطار تنظيمي لأنظمة "آمنة، موثوقة، وقابلة للثقة"، فتستعد الدول لتحوّل تاريخي في مواجهة مادّية السوق غير الديمقراطية الأميركية، ما يمثل تهديداً اقتصادياً وأخلاقياً للعالم.