تراجع الاهتمام الدولي بالديمقراطية في العالم العرب

تراجع الاهتمام الدولي بالديمقراطية في العالم العربي

26 مارس 2022
+ الخط -

منذ صعوده إلى الحكم في يناير/ كانون الثاني 2021، رفض الرئيس الأميركي جوزيف بايدن الاتصال بولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بسبب خلافات حقوقية بالأساس، كما أعلنت إدارته تجميد 130 مليون دولار من المعونة العسكرية المقدّمة لمصر للأسباب نفسها، كما أوقفت دولة الإمارات صفقة لشراء طائرات إف 35 الأميركية لرفض الولايات المتحدة تزويدها بتكنولوجيا متقدّمة، وتوترت العلاقة بين واشنطن وأبوظبي بسبب شعور الأخيرة بأن الولايات المتحدة لم تدعمها بشكل كافٍ في الضغط على جماعة الحوثي في اليمن وعلى إيران.

ولكن بعد مرور أقل من ثلاثة أسابيع بعد بداية الغزو الروسي أوكرانيا في 24 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، رفضا تلقي اتصال هاتفي من الرئيس الأميركي، كان يهدف بالأساس إلى تحسين علاقته بالرجلين، ومطالبتهما بالمساعدة في الجهود الغربية لعزل روسيا وتشديد الخناق الاقتصادي المفروض عليها من خلال ضخّ كميات أكبر من النفط في الأسواق الدولية. كما ذكر موقع إكسيوس الأميركي أن مساعدي بايدن كانوا يفكرون في تنظيم زيارة قريبة له إلى السعودية للأسباب نفسها.

وفي 15 مارس/ آذار، وفي كلمة له أمام مجلس الشيوخ الأميركي، أبدى قائد القيادة المركزية للقوات الأميركية، الجنرال فرانك ماكينزي، استعداد بلاده لتصدير طائرات إف 15 الأميركية إلى مصر، وهي طائرة أكثر تقدّماً من الطائرة إف 16 التي تمتلكها مصر، وذلك بعد سنوات من طلب القاهرة الحصول على "إف 15"، وبعد أن لجأت مصر أخيراً إلى روسيا بطلب شراء طائرة سوخوي 35. والواضح أن الموافقة الأميركية تأتي لثني القاهرة عن شراء الطائرات الروسية، ولأن مصر توسعت، خلال السنوات الأربع الأخيرة، في شراء الأسلحة من مختلف الدول، وفي مقدمتها روسيا وفرنسا وألمانيا، حتى أصبحت ثالث دولة مستوردة للأسلحة حول العالم، وفقاً لتقرير مركز استوكهولم الدولي لأبحاث السلام، والذي يُصدر تقارير دورية عن مبيعات الأسلحة في العالم. ويقول أحدث تقارير المركز، الصادر في مارس/ آذار الحالي، إن صادرات الأسلحة الأميركية إلى مصر تراجعت خلال السنوات الأربع الأخيرة، حتى أصبحت أميركا خامس أكبر مصدر للأسلحة إلى مصر، في حين احتلت روسيا المرتبة الأولى، بعد أن زادت مشتريات الأسلحة المصرية من روسيا بشكل غير مسبوق منذ نهاية السبعينيات. ويبدو أن أميركا قرّرت التغاضي قليلا عن مطالبها الحقوقية من مصر لضمان الحفاظ على حصة أكبر من مشتريات الأسلحة المصرية، ولتعطيل جهود مصر تنويع واردات أسلحتها.

لم تصدُر اعتراضات غربية رسمية تذكر على إعدام مصر أخيراً سبعة من المتهمين السياسيين، ولا على إعدام السعودية 81 متهماً

ولهذا لم تصدُر اعتراضات غربية رسمية تذكر على إعدام مصر أخيراً سبعة من المتهمين السياسيين، ولا على إعدام السعودية 81 متهماً، وهو أكبر عدد للإعدامات يطبق في السعودية خلال يوم. وذلك على الرغم من الاعتراضات الحقوقية المستمرّة والمعروفة على النظامين القضائيين في البلدين. كذلك جاءت الإعدامات السعودية قبل حوالي يومين من زيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون المملكة في منتصف مارس/ آذار الحالي، بهدف جذب مزيد من الاستثمارات السعودية إلى السوق البريطاني الذي يعاني من تبعات أزمة كورونا، وارتفاع أسعار الطاقة بسبب غزو أوكرانيا، وما زال يُتنظر تدفق الاستثمارات الأجنبية بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وكذلك لإقناع السعودية بزيادة إنتاجها من النفط، وهو ما عرّض جونسون لانتقادات إعلامية وبرلمانية داخل بريطانيا، خصوصاً أنه عاد من دون التوصل إلى أي اتفاق مع السعودية والإمارات على زيادة إنتاجهما من النفط، وبدون حتى إعلان نيتيهما فعل ذلك.

وتفيد تقارير وتحليلات عديدة بأن الموقف السعودي والإماراتي الرافض زيادة إنتاج البلدين من النفط، على الرغم من الإلحاج الغربي على ذلك، مؤشّر على توجه أعمق لدى قادة البلدين، وربما قادة دول عربية أخرى كمصر، إلى التقليل من أعباء تحالفهم مع الولايات المتحدة، والتوجه استراتيجياً نحو التحالف مع روسيا والصين، ويرتبط ذلك التوجه بعوامل سياسية عديدة، تتقدمها:

أولاً: أميركا هي من بادرت بتخفيف أعباء تحالفها الاستراتيجي ووجودها العسكري مع دول المنطقة، فهي من تخطّط استراتيجياً منذ عقدين تقريباً لتقليل اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، وتقليل التزاماتها العسكرية والأمنية والسياسية في المنطقة، وتركيز طاقتها على مواجهة الصين بالأساس ثم روسيا. وفي صيف العام الماضي، أكمل الرئيس بايدن سحب قوات بلاده من أفغانستان بشكلٍ لم يخلُ من تسرّعٍ وعشوائيةٍ وإضرارٍ بصورة أميركا ومكانتها، كما رفض سلفه الرئيس ترامب اتخاذ موقف قوي تجاه الهجمات التي تعرّضت لها منشآت النفط السعودية في صيف 2019، والتي اتهمت السعودية إيران بالوقوف خلفها، كما تستعد إدارة بايدن لتوقع اتفاقاً نووياً جديداً مع إيران، سوف يسمح للأخيرة بزيادة نفوذها ونفوذ الجماعات الموالية لها في المنطقة، رغم معارضة السعودية والإمارات ذلك.

على الشعوب العربية ودعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان العرب الاستعداد لفترة مقبلة أصعب

ثانياً: في مقابل الانسحاب التدريجي الأميركي، تدخلت روسيا والصين تدريجياً لملء الفراغ، إذ تدخلت روسيا عسكرياً في سورية وليبيا، كما وقّعت الصين عدداً متزايداً من الاتفاقات الاستراتيجية والاقتصادية مع دول المنطقة، وتستعد الرياض لاستقبال زيارة رسمية للرئيس الصيني شي جين بينغ، قريباً، وسط حديث متزايد عن توقيع اتفاقات عسكرية بين البلدين لاستيراد أسلحة صينية وتصنيع مشترك لبعضها مع السعودية.

ثالثاً: التحالف السياسي مع الصين وروسيا غير مكلف سياسياً وإيديولوجياً لدول المنطقة، فالرئيس الروسي بوتين يؤمن بنموذج الحاكم المستبد القوي، وهو نموذج تفضله نظمٌ كثيرة في المنطقة، والصين ترفض التدخل في شؤون الدول الأخرى والاهتمام بقضايا كالديمقراطية وحقوق الإنسان في علاقتها مع الدول، وتعلي من قضايا الخصوصية والسيادة والاستقلالية والمصالح الاقتصادية. ويبدو أن حلفاء أميركا في المنطقة لم ولن ينسوا لها موقف إدارة أوباما خلال ثورات الربيع العربي، إذ ضغط أوباما من أجل التخلّص من بعض حلفائه، وفي مقدمتهم حسني مبارك في مصر، بعد انتفاضة شعبه ضده. ويبدو أن هذا الموقف دفع نظم المنطقة إلى تسريع وتيرة تخفيف تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، والبحث عن حلفاء استراتيجيين جدد لن يتخلوا عنها أو يضغطوا عليها لأسبابٍ سياسية وحقوقية.

التحالف السياسي مع الصين وروسيا غير مكلف سياسياً وإيديولوجياً لدول المنطقة

رابعاً: مع تقدّم المفاوضات الإيرانية والانسحاب الأميركي من المنطقة، دخلت الدول العربية الحليفة لأميركا في سلسلة من اتفاقات إقليمية تهدف إلى إعادة تنظيم المنطقة وتحالفاتها لملء الفراغ الناجم عن تراجع الصعود الأميركي، ولمواجهة النفوذ الإيراني المتزايد، والحديث هنا عن الانفتاح على إسرائيل بالأساس، وكذلك تركيا التي مرّت علاقاتها مع السعودية ومصر والإمارات بفترة صعبة، بسبب دعم حكومتها الربيع العربي.

خامساً: وقعت دول "أوبك" اتفاقاً مهمّاً في 2016 مع روسيا، لتنظيم أسواق النفط وضمان الحفاظ على أسعار النفط عند مستويات مقبولة، في ظل توجه عالمي إلى تقليل الاعتماد على النفط واستبداله بموارد متجدّدة للطاقة، وليس من مصلحة السعودية والإمارات التخلّي عن ذلك الاتفاق، وإغراق أسواق النفط في ظل التوجه الاستراتيجي الغربي إلى تقليل الاعتماد عليه.

من شأن العوامل السابقة مجتمعة الدفع في اتجاه تشجيع دول المنطقة على التخفيض التدريجي لشراكاتها مع الغرب والولايات المتحدة، والتوجّه استراتيجياً نحو الصين وروسيا، وهو توجّه يبدو أنه بدأ منذ فترة، وسوف يستمر ويزداد في الفترة المقبلة، وسوف تكون له تبعات مختلفة على الدول العربية، وفي مقدمة تلك التبعات تراجع الاهتمام الدولي بقضايا الديمقراطية والحريات، فالصين وروسيا لن تدفعا من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي. ومن شأن تراجع الدور الغربي في المنطقة التقليل من نفوذه، والقدرة على التذكير بتلك القضايا بين حين وآخر، وربما سارعت الحرب في أوكرانيا بوتيرة هذا التوجه، فقد كشفت عن عمق التوجّه العربي نحو روسيا والصين، وأعادت أميركا إلى أجواء الحرب الباردة، حيث التغاضي عن قضايا الحقوق والحريات من أجل المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الرئيسية. وهذا يعني أن على الشعوب العربية ودعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان العرب الاستعداد لفترة مقبلة أصعب يزداد فيها توغل الاستبداد داخلياً وإقليمياً، بالتزامن مع مزيد من تراجع الدعم الدولي للديمقراطية وحقوق الإنسان.