تدويل الواقعة التونسية

تدويل الواقعة التونسية

16 اغسطس 2021

2017/03/11 (Getty)

+ الخط -

مرّ نحو ثلاثة أسابيع على تونس، منذ إعلان الرئيس قيس سعيّد، عن قرارات استثنائية، رأى فيها عديدون انقلابا على الدستور، في حين رآها آخرون خرقا للدستور فرضته حالة الشلل التي أصابت أجهزة الدولة ومؤسسات الحكم، علاوة على الحالة الوبائية الخطيرة في سياقٍ تشهد فيه البلاد منذ أكثر من عقد أزمة اقتصادية واجتماعية. لن يعود الكاتب هنا إلى تحديد المسؤوليات التي يتقاسمها الجميع، وبدرجات متفاوتة، فالرئيس سعيّد مثلا يتحمّل قسطا من المسؤولية، وهو الذي رفض أداء يمين الوزراء وختم قانون المحكمة الدستورية. وربما كان تعفين الوضع ودفع البلاد إلى مزيدٍ من التأزيم إحدى استراتيجياته لتأجيج الغضب، والاستناد إلى شرعية ما، سرعان ما أصبحت في خطابه وخطاب أنصاره شرعية "الإرادة الشعبية" وهي التي تمكّنه من تجاوز المسؤوليات والاستحواذ على السلطات، التنفيذية والقضائية والتشريعية، فالرئيس يحكم بأمره منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، تولى خلالها تعيين الولاة والمكلفين بتسيير الوزارات، وأحال مشتبها فيهم عديدين على المحاكم، وأجبر آخرين على الإقامة الجبرية التي لا يجيزها الدستور التونسي مطلقا، واعتبرتها المحكمة الإدارية مرّات عدة باطلة.
وسط ذهول بعضهم وحذر آخرين، يواصل أنصار سعيد حشد مزيد من التعاطف، ففي أقل من أسبوعين، تشكلت أجسام "شبحية": تنسيقيات، جيل الرقميات، المجلس الأعلى للشباب، وأخيرا الحشد الشعبي، وكلها أجسام لا تخضع إلى أي تصنيف قانوني، فهي ليست منظمات أو جمعيات. ويُخشى أن تتحول إلى أجسام سياسية لها اليد العليا في ظل عدم إيمان الرئيس بالأحزاب مطلقا، واعتبارها تحايلا على المواطنين. وباستثناء بعض التوقيفات تحت لافتة مقاومة الفساد، لم يوضح الرئيس أي خريطة للطريق، بعد ان تنقضي مدة هذه الإجراءات التي وعد أنها تنتهي بعد ثلاثين يوما، على الرغم من أنه ترك الباب مفتوحا لتمديد هذه المدة. وقد ارتفعت أصوات المخاوف بشكل واضح من منظمات وطنية عديدة، ومن المجتمع المدني، في بياناتٍ عدة رأت في الهجوم على القضاة والتحرّش بالإعلام والمنظمات الوطنية، على غرار الفلاحين، بوادر عودة الاستبداد مجدّدا.

بدأت رائحة التخوين تلاحق كل من تسوّل له نفسه انتظار الضغط الخارجي، مطالبين الرئيس بـ"الصمود أمام الضغوط الخارجية"

في هذا المناخ المتوتر، والذي يُخشى أن يعيد تونس إلى مربع التسلط، توافد على تونس عشرات المسؤولين. ولافت للانتباه أن أول هؤلاء قدموا تباعا من السعودية والإمارات ثم مصر، من مستويات رفيعة، ما يؤكد أهمية الرسائل التي حملوها إلى الرئيس سعيد. تُضاف إلى ذلك مواقف الدول الأوروبية التي يرتبط الاقتصاد التونسي بها ارتباطا وثيقا. وقد صدرت تلك المواقف عن فرنسا وألمانيا وغيرهما، وعن الاتحاد الأوروبي الذي عبّر عن انشغاله بتطورات الوضع التونسي، وظلّ متردّدا حسب ما ورد في بيانه، غير أنه لم ير في ما قام به الرئيس انقلابا، متعهدا بأنه سيدرس توصيف ما حدث لاحقا. وعموما، ظلت أغلب المواقف "خجولة". مع ذلك، أجمعت على ضرورة العودة سريعا عن تلك الإجراءات الاستثنائية، واستئناف المسار الديمقراطي، على عثراته وعلاته .
وجاء الاهتمام الأميركي بالواقعة التونسية استثنائيا، فقد استقبل الرئيس سعيد يوم 13 أغسطس/ آب الجاري، وفدا رفيع المستوى فيه مكونان أساسيان، أمني ودبلوماسي، نقل رسالة خطية من الرئيس الأميركي جو بايدن. وقد صدر عن البيت الأبيض، إثر ذلك بيان (الخامس من 25 يوليو/ تموز)، حث فيه الرئيس على ضرورة التمسّك بالديمقراطية البرلمانية، وتعيين رئيس حكومة في أقرب الأوقات، لتتفرّغ لمجابهة القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحّة، وضرورة إجراء حوار وطني إدماجي، من أجل رسم الإصلاحات الدستورية، وإدخال تعديلات على القانون الانتخابي، حتى يكون أكثر استجابة لتطلعات فئات واسعة من التونسيين. ولكن بيان رئاسة الجمهورية جاء مخالفا تماما لما أورده البيت الأبيض، فضلا عن تصريحات عديدة مقرّبة من دوائر الرئيس، ترذل "الاستقواء بالأجنبي"، وهذه من سرديات نظام بن علي المهجورة. وقد بدأت رائحة التخوين تلاحق كل من تسوّل له نفسه انتظار الضغط الخارجي، مطالبين الرئيس بـ"الصمود أمام الضغوط الخارجية"، والانتصار للقرار الوطني وحتمية الذهاب إلى أقصى ما يمكن أن يرد في خيال هؤلاء، حتى ولو كانت تلك الفرضيات تنسف الحد الأدنى من ثوابت الانتقال الديمقراطي.

نعت قيس سعيّد، في أكثر من موقف، خصومه بالفيروسات والجراثيم السياسية، وبأنه سيتم تطهير البلاد منهم

يتم إعلاء السيادة الوطنية خارج تنظيرات العلاقات الدولية وتشابك المصالح، وتعولم القضايا السياسية، متحصنين بمفهوم سيادوي تكرّسه عادة، وبشكل جوهري، الأنظمة الشمولية التي تنكّل بحقوق الإنسان تحت هذه اللافتة.
بعيدا عن هذه المقاربة، يدعو مثقفون وفاعلون سياسيون الى أهمية العودة إلى الحوار الوطني من أجل إعادة القطار التونسي إلى سكة الديمقراطية وبدء سلسلة مراجعات ذاتية، سواء في أوساط من حكموا أو عارضوا خلال العشرية المنصرمة، وهي التي من شأنها أن ترسّخ المسار الديمقراطي، وتلجم أي نوازع للاستبداد، يبرّر لها بعضهم عادة تحت مسوّغات عددية، منها الإرادة الشعبية.
سيبدو من المستبعد أن يأخذ الرئيس التونسي بما نصحه به الوفد الأميركي. والأرجح أن يذهب في تطبيق ما أعلنه مرارا "لا للعودة إلى الوراء" متوعّدا خصومه الذين نعتهم، في أكثر من موقف، بالفيروسات والجراثيم السياسية، بأنه سيتم تطهير البلاد منهم، فمكانتهم التي تليق بهم، كما قال، هي قنوات الصرف الصحي، وهذه مفردات تنتمي إلى قاموس لم يعتد عليه الفرقاء السياسيون حتى في زمن بن علي.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.