تدمير الإسلام في أفريقيا

تدمير الإسلام في أفريقيا

04 مايو 2021
+ الخط -

كان الصديق فؤاد نهدي، عليه رحمة الله (رحل عن عالمنا في مارس/ آذار عام 2020 متأثراً بمرض كورونا)، أول من نبهني إلى الحضور الإسلامي القوي والمتجذر في موزامبيق، بعد أن كانت فكرتي عنها أنها كانت تخلو تماماً، مثل كثير من دول الجنوب الأفريقي، من الوجود الإسلامي الأصيل، فيما تلوّنت هويتها "الأفريقية" فيما بعد بصبغة استعمارية طاغية (برتغالية في هذه الحالة). وكان فؤاد نفسه، رحمه الله، ظاهرة فريدة في تجليات الهوية، فقد ولد في تنزانيا لأم إندونيسية وأب كيني الجنسية، يمني المحتد، من قبيلة نهد العريقة، وعاش شبابه وتلقى دروسه الجامعة في كينيا، قبل أن ينتقل إلى بريطانيا في مطلع الثمانينيات. تعارفنا مبكّراً، لأنه كان إعلامياً طامحاً، كما كان نشطاً فكرياً في المجتمع الإسلامي في بريطانيا. تميز بأنه كان إعلامياً بطبعه، ومن المنفتحين فكرياً، مع إرث "قبلي" أفريقي - يمني، حيث حول منزله في شمال غرب لندن، مع زوجته باكستانية الأصل حميراء خان (وهي أيضاً إعلامية بارزة)، إلى "ديوانية" يتحلق فيها أصدقاؤه الكثر، ويغشاها لفيف من قيادات المجتمع الإسلامي البريطاني. وقد جمع حوله مجموعة من الشباب أنشأوا سلسلة من المنابر الإعلامية، أبرزها صحيفة "كيو- نيوز"، وأصبح بسرعة من أعلام الجالية الإسلامية، وقائداً لتيار الانفتاح والحوار فيها، تاركاً بصمة قوية في تشكيلها ورسم توجهاتها.

واجه المسلمون في المنطقة التهميش، تحديداً لتمسّكهم بهويتهم، وعدم انخراطهم في المؤسسات الاستعمارية التعليمية والإدارية

علمت من فؤاد وقتها كيف أن الوجود الإسلامي في موزامبيق بقي امتداداً للوجود "السواحلي" الثقافي- اللغوي- الديني الذي تجذّر في سواحل المحيط الهندي في أفريقيا قرونا، وسبق الوجود الاستعماري في المنطقة بقرون. وكما هو الحال في معظم مناطق أفريقيا الأخرى، فإن هذا الوجود تميز بتعدّديةٍ لافتة، وتعايشٍ فريدٍ مع محيطه الأفريقي. ولهذا صمد خلال الحقبة الاستعمارية، وإن كان المسلمون واجهوا التهميش، تحديداً لتمسّكهم بهويتهم، وعدم انخراطهم في المؤسسات الاستعمارية التعليمية والإدارية، تحديداً لأنها كانت ذات طابع كنسي تبشيري.
لهذا كله كانت صدمتي مفهومة، عندما أخذت الأنباء تتتابع عن اختيار ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية أن يجعل من هذه المنطقة المسالمة مسرحاً لكبائر آثامه وإفساده في الأرض. وتعود بدايات الأزمة إلى نزوح بعض منتسبي حركة سلفية كينية قتلت الشرطة قائدها (عبود روغو محمد) عام 2012، بعد اتهامه بدعم حركة الشباب الإسلامي الراديكالية في الصومال. تشكلت بدايةً حركة سلفية (سلمية في الغالب) سمّت نفسها "أهل السنة والجماعة"، قبل أن تبدأ في عام 2015 ببناء المعسكرات، ثم تطلق عملياتها المسلحة عام 2017. وفي عام 2019، أعلنت الحركة انضمامها لحركة الشباب/ الدولة الإسلامية. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، شنّت واحدة من أسوأ هجماتها على سكان قريتين في محافظة كابو دلغادو في أقصى شمال البلاد. وبحسب الروايات، شملت الهجمة إعدام أكثر من خمسين من القرويين الذين حاولوا الفرار، بقطع الرؤوس في ملعب كرة قدم. وفي شهر مارس/ آذار الماضي، شنّت الجماعة هجمة أخرى على مدينة بالما الساحلية، حيث قتلت عشرات من الأجانب والسكان المحليين، وشرّدت عشرات الآلاف، وبثت الرعب في كل المنطقة.

استمرت مساهمات مسلمي أفريقيا متميزة في مجتمعاتها، حيث ظلوا عامل توافق

ولا تعتبر مثل هذه الهجمات الوحشية كارثة على موزامبيق فحسب، بل كذلك على مسلمي البلاد، الذين يمثلون حوالي 20% من أهلها، وعلى الإسلام في أفريقيا عموماً، فقد تميز إسلام أهل القارّة بهويته المسالمة وطبيعته الحضارية، حيث انساب إلى أفريقيا (بما في ذلك السودان) انسياب الماء إلى الأرض الجرز، بدون حروب. حمله التجار والعلماء والمتصوفة والحجاج والمهاجرون، ومثلته مراكز علمية ثقافية، مثل مدينة تمبكتو العريقة في شمال مالي، حيث كانت ولا تزال مركز علم وتعليم ونشر للإسلام، تشهد على ذلك مساجدها ومكتبات مخطوطاتها الفريدة.
كانت مالي أيضاً قاعدة الأمير منسى موسى (1280 - 1337)، أحد أشهر ملوك افريقيا (ضمت إمبراطوريته مناطق امتدت من موريتانيا الحالية إلى غانا جنوباً) وأحد أغنى الأغنياء في التاريخ البشري. وقد كانت حجته في عام 1324 - 1325 ميلادية (724ه) من أشهر الرحلات في التاريخ، حيث صحبه فيها ستون ألفاً، منهم اثنا عشر ألفا من الخدم، حمل كل واحد منهم أربعة أرطال من الذهب، إلى ثمانين جملاً محملة بدورها بأطنان من نشارة الذهب. وكان يطعم كل من في القافلة، وينفق ذات اليمين والشمال في كل بلد يمر بها، ويبني مسجداً كل جمعة. وقد ذكر المقريزي تفاصيل لقائه شبه الودي مع السلطان المملوكي الناصر بعد تمنّع من منسى موسى. وللمفارقة، كان لزيارته وكرمه أثر سلبي على اقتصاد مصر والحرمين، لأن كثرة إنفاقه من الذهب أحدثت نوعاً من "التضخم" بسبب وفرة الذهب في أيدي الناس. وفي مفارقة أخرى، يقال إن منسي موسى اقترض، في طريق عودته، كميات كبيرة من الذهب من التجار، خصوصا من مصر!
وقد استمرت مساهمات مسلمي أفريقيا متميزة في مجتمعاتها، حيث ظلوا عامل توافق، كما حدث في بلدان، مثل رواندا وغيرها من بلدان الصراع. ففي موزامبيق، مثلاً، لم يكونوا طرفاً في الحروب الأهلية المتطاولة.

حركات تشبه الطاعون: لا تفعل سوى التدمير. وأسوأ من ذلك أنها ترتكب هذه الفظاعات باسم الإسلام، ما يشوّه صورة الإسلام بربطه بالوحشية

وفي مقابل هذا الإرث الحضاري الثري قديماً وحديثاً، تتعرّض هذه المجتمعات الآن لهجمات وحشية من جهاتٍ تدّعي الإسلام، كما نشهد في موزامبيق اليوم، وقبل ذلك نيجيريا ومالي وتشاد وعدد متزايد من دول أفريقيا. في الحالة النيجيرية، بدأ حراك المتطرّفين بحملة روّعت الآمنين، واستهدفت المساجد في شمال شرق نيجيريا، قبل أن تركز على خطف الطالبات والطلاب من المدارس. وقد تداخل نشاطها في هذا مع نشاط عصابات الابتزاز التي أصبحت تمارس الاختطاف من أجل المال، بحيث استحال التفريق بين الاثنين، وهو في حد ذاته خير توصيف لما تقوم به مثل هذه الحركات. في مالي أيضاً، دمرت المليشيات المتطرّفة المدن التاريخية، وفي مقدمتها تمبكتو، حيث تعرّضت مساجدها الأثرية ومكتباتها الشهيرة للعبث والتدمير، ما مثّل تهديداً مزدوجاً لحاضر المسلمين وتراثهم، وهو ما لم يجرؤ عليه حتى الاستعمار، بل ترفع عنه حتى المغول والتتار. المقارنة الوحيدة لمثل هذه الفظاعات تكون مع تراث الصليبيين في فلسطين وما حولها.
هذه حركات تشبه الطاعون: لا تفعل سوى التدمير. وأسوأ من ذلك أنها ترتكب هذه الفظاعات باسم الإسلام، ما يشوّه صورة الإسلام بربطه بالوحشية، وعدم الالتزام بالعهود والأخلاق، فيصدّون بذلك عن سبيل الله، فناسٌ كثيرون لا يعرفون الإسلام إلا عبر تجاربهم مع معتنقي الديانة، أو سماعاً. ومعروفٌ أن أخبار الدمار والقتل والفظائع تنتقل بسرعة أكبر، وعلى نطاق أوسع، من أخبار عمل الخير أو الأخبار العادية، فقد شهدنا كيف تعلّق العالم كله بقضية خطف فتيات مدرسة تشيبوك في ولاية برنو النيجيرية عام 2014 كل العالم لأشهر.

لم توفر جماعات التدمير المساجد والكنائس وأماكن العبادة، على الرغم من أن أول آية شرعت للجهاد ربطته بالدفاع عن حرمة أماكن العبادة

ولعل ثالثة الأثافي هي استهداف غير المقاتلين من النساء والأطفال ورجال الدين من كل الأديان، على الرغم من نهي القرآن عن العدوان عموماً ("ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين")، وعلى هذه الفئات خصوصاً. لم توفر هذه الجماعات كذلك المساجد والكنائس وأماكن العبادة، على الرغم من أن أول آية شرعت للجهاد ربطته بالدفاع عن حرمة أماكن العبادة ("ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً"). وهي تحارب أيضاً التعليم، بدعوى أن بعض مصادره غير إسلامية، على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قايض أسرى المشركين في بدر على حريتهم مقابل تعليم عشرة صبيان الكتابة، فهل أنصاف الأميين هؤلاء يفقهون في الدين أفضل من الله ورسوله؟
عملياً كذلك، كانت هذه الحركات وبالاً على المجتمعات التي زعمت أنها تصدّت للدفاع عنها، كما حدث في سورية والعراق، حيث انتصر الطغاة، مثل بشار الأسد تحديداً، لأن العالم كله وقف معهم ضد هذه الحركات التي كانت تتخذ من ضحايا القمع دروعاً بشرية، وتزيدهم قمعاً فوق القمع، فدمّرت المجتمعات المهمشة أصلاً في سورية والعراق، ومكّنت للطغيان والنفوذ الأجنبي.
وعندما يرتبط اسم الإسلام بمثل هذه الجرائم والفظائع المجرمة قرآنياً، في أذهان كثيرين في أفريقيا، فإن الجريمة في حق دين الله والأمة الإسلامية عموماً، وفي أفريقيا خصوصاً، تصبح من أمهات الكبائر. ويزيد من عظمها أن هذا الوقت صادف انحسار مراكز النفوذ الإسلامي التقليدي في شمال أفريقيا (مصر وليبيا ودول المغرب والسودان)، التي كانت مراكز إشعاع ديني، ولكنها أصبحت اليوم "ثقوباً سوداء" عاكفةً على التدمير الذاتي في ظلامها الدامس، فلم تعد السند لأفريقيا، بل باتت خصماً عليها ولها.
حمى الله أفريقيا من أدعياء الإسلام، قبل غيرهم.

822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي