تداعيات تعديل هيئة الانتخابات في تونس

تداعيات تعديل هيئة الانتخابات في تونس

27 مايو 2022
+ الخط -

تُعدّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من أبرز مكتسبات الثورة التونسية، وهي هيئة دستورية، مدنية، منتخبة، مكلّفة بالإشراف على تنظيم الانتخابات في تونس، كما أنها من أهمّ المؤسسات التي أنتجها مسار الدمقرطة في تونس. ومثّل إحداثها قطيعةً مع عقودٍ من هيمنة مؤسّسة الرئاسة، والحزب الواحد، والسلطة التنفيذية على المشهد الانتخابي بعد الاستقلال (1956 - 2009). رأت الهيئة النور في 18 أبريل/ نيسان 2011، وصدر قانونها الأساسي في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2012. ومع تأسيسها، لم تعد إدارة الاستحقاقات الانتخابية من مشمولات وزارة الداخلية. وكفّت الانتخابات عن كونها حدثا نمطيا، مكرورا، تعتريه شبهات تزوير واسعة، ونتائجه معلومة سلفا. وغدا الانتخاب فعلا مواطنيا، تعدّديا، حرّا، يجسّد تنوّع الشارع السياسي التونسي، والتداول السلمي على السلطة. وفي ظلّ الهيئة المذكورة، انتظمت معظم الانتخابات بعد الثورة في كنف النزاهة والشفافية بشهادة منظماتٍ رقابيةٍ وحقوقية، وطنية ودولية موثوقة.

تضطلع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بمهامّ حيوية، من بينها تسجيل الناخبين، وتحيين القوائم الانتخابية، وتأمين الإعداد اللوجيستي والتنظيمي للانتخابات والاستفتاءات، وإشهارها، وتنفيذها بما يتفّق مع المدد المقرّرة بالدستور والقانون الانتخابي، وضبط مراكز الاقتراع في الداخل والخارج، وتقسيم الدوائر الانتخابية، وضمان حقوق الناخبين والمترشّحين، وعدم المفاضلة بينهم، وتكوين المشرفين على مراحل المسار الانتخابي، والقيام بحملات توعويةٍ وتثقيفية بشأن الفعل الانتخابي، موجّهةٍ إلى عموم المواطنين، وذلك بالتنسيق مع منظمات المجتمع المدني. وهي معنيّة أيضا بوضع مدوّنات حسن السلوك الانتخابي الضامنة مبادئ النزاهة والشفافية، والحياد، وحسن توظيف المال العام، وعدم تضارب المصالح، وتُشرف على اعتماد الملاحظين (المراقبين) والضيوف، والصحافيين المحليين والأجانب لمتابعة مراحل الاستحقاق الانتخابي، وكذا ممثلي المترشّحين في مكاتب الاقتراع. كما أنها تراقب تمويل الحملات الانتخابية، وفرز الأصوات والإعلان عن النتائج الأولية والنهائية للانتخابات والاستفتاءات، وتقديم مقترحات إلى المجلس التشريعي لتطوير المنظومة الانتخابية، وإبداء الرأي بشأن مشاريع النصوص والقوانين المتعلّقة بالشأن الانتخابي. وتعدّ الهيئة تقارير عن سير كل عملية انتخابية أو استفتاء، توجّهها إلى الرئاسات الثلاث (الجمهورية، البرلمان، الحكومة)، وتضع تقريرا سنويا يشتمل على نشاطها للسنة المنقضية وبرنامج عملها للسنة التي تليها، يُعرض على الجلسة العامة لمجلس النواب، باعتباره الجهة التي انتخبت الهيئة، وتتولّى تمرير ميزانيتها ومراقبة أعمالها.

بإقدامه على تغيير هيئة الانتخابات على طريقته، يمضي قيس سعيد في تكريس صورة الرئيس الراعي، الذي يدّعي امتلاك الحقيقة، ويفكّر بدل الشعب

والواقع أنّ قيس سعيّد بلغ سدّة الحكم سنة 2019 في انتخابات رئاسية، أشرفت عليها الهيئة المستقلة للانتخابات، وفاز بكرسي الرئاسة، رغم أنّه كان مغمورا، أمام مرشّحين بارزين، في مقدّمتهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ودلّ ذلك على حياد الهيئة وحرفيتها. لكن سعيّد بعد أن فرض على البلاد التدابير الاستثنائية إبّان احتجاجات مطلبية محدودة على أداء البرلمان والحكومة، قدح في استقلالية الهيئة، واتهمها بأنّها خاضعة للمحاصصة الحزبية، وتأكّد هذا التوجه بإصدار رئيس الجمهورية المرسوم عدد 22 بتاريخ 21 إبريل/ نيسان 2022 الذي أدخل بمقتضاه تعديلاتٍ جوهرية على القانون الأساسي للهيئة، وغيّر بموجبه تركيبتها، ومدّة تكليفها، وآلية اختيارها. ولتلك الخطوة تداعيات دستورية وسياسية معتبرة.

من الناحية الدستورية، من المفيد الإشارة إلى أنّ الدستور التونسي (2014) نصّ على أنّ النظام الانتخابي، بمكوّناته المختلفة، بما في ذلك الهيئة، غير مشمولٍ بالمراسيم الرئاسية والحكومية حتّى زمن الاستثناء. فقد جاء في الفصل 70: "يستثنى النظام الانتخابي من مجال المراسيم". ومن ثمّة فإصدار مرسوم رئاسي يتعلق بشأن انتخابي عموما وبهيئة الانتخابات خصوصا، يُعدّ، في نظر قانونيين، انحرافا عن نصٍّ صريح في الدستور. وبموجب المرسوم الجديد، أسند الرئيس لنفسه صلاحيات كبيرة، جعلته الفاعل الرئيسي في تشكيل ملامح الهيئة، وتحديد مصيرها. ففي مستوى التركيبة، عمد قيس سعيّد إلى تقليص عدد أعضاء مجلس الهيئة من تسعة إلى سبعة، "يتمّ تعيينهم بأمر رئاسي" (الفصل 5)، هم ثلاثة أعضاء، يختارهم رئيس الجمهورية من الهيئات الانتخابية السابقة، والمرجّح أن يكونوا من الذين لا يعارضون سياساته وتدابيره الاستثنائية، وثلاثة آخرون ينتقيهم الرئيس أيضا من بين تسعة قضاة، ترشّحهم المجالس القضائية المؤقتة (العدلية، الإدارية، المالية)، وعضو آخر يختاره من ثلاثة مهندسين يقترحهم المركز الوطني للإعلامية (حكومي). والملاحظ من خلال قراءة هذه التركيبة أنّ للرئيس صلاحية تعيين مَن يرتضيه هو في عضويتها، وحتّى الهياكل المرشّحة (مجلس القضاء المؤقت، المركز الوطني للإعلامية) هي هياكل واقعة تحت سطوة السلطة التنفيذية، خصوصا بعد حلّ المجلس الأعلى للقضاء. كما أنّ الهيئة الجديدة غلب عليها اللون الواحد، ولا تعكس تنوّع الاجتماع التونسي، فجلّ أعضائها من القضاة، على خلاف الهيئة السابقة التي كانت هيئة تعدّدية، ضمّت في صلبها ممثلين لشرائح مختلفة من المجتمع (أستاذ جامعي، محام، عدل إشهاد أو تنفيذ، مختص في الاتصال، عضو عن التونسيين في الخارج)، فإهدار جانب التنوّع قلّل من الصفة التمثيلية للهيئة الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، أسند رئيس الجمهورية إلى نفسه صلاحية "اتخاذ القرار بإعفاء أيّ عضو من عدمه" (الفصل15)، ومن مشمولاته تعيين رئيس الهيئة (الفصل 6) الذي منَحه سلطة اختيار نائب له، وناطق رسمي باسم الهيئة (الفصل 8). ويؤدّي هذا النهج في توزيع الخطط إلى تضخيم دور رئيس الهيئة الذي "ينتفع بموجب المرسوم المذكور بأجرة وامتيازات وزير، وتضبط أجور الأعضاء وامتيازاتهم بأمر رئاسي (الفصل 17)، فضلا عن تمتيعهم بالحصانة. ويتناقض ذلك مع دعاوى قيس سعيّد إلى إعمال الحوْكمة، ومكافحة إهدار المال العام، وتأسيس مجتمع القانون.

طيف معتبر من التونسيين يعتريه شعورٌ بالإحباط، بسبب تركيز سعيّد على إحداث تغييراتٍ سياسيةٍ ودستورية ليست من صميم مطالب معظم الناس

ومن ثمّة، احتكر رئيس الجمهورية صلاحيات التعيين، والتقدير، والتأجير، والإعفاء، ووضع الهيئة الانتخابيّة عمليا تحت سلطته بحسب قانونيين، واستولى، في هذا الخصوص، على صلاحيات المجلس النيابي، باعتبار أنّ الهيئة السابقة كانت من تسعة أعضاء، ينتمون إلى هياكل مهنية مختلفة، وكانوا يقدّمون ترشّحهم بصفة شخصية، تلقائية إلى مجلس نوّاب الشعب. فتتولّى لجنة منه النظر في سيرهم الذاتية، وترتيبهم حسب الاختصاص والكفاءة. ثمّ تُحال ملفّات المترشحين على الجلسة العامّة للبرلمان، حيث يجري انتخاب أعضاء الهيئة بأغلبية الثلثين. ولكن سعيّد أعرض عن هذا التمشّي الديمقراطي، ونسب إلى نفسه آلية التكليف والإعفاء صلْب الهيئة. وتضمّن المرسوم تحديد ولاية الأعضاء بأربع سنوات (فصل 9)، وهو ما يدلّ على أنّ الهيئة لن تكون وقتية، ذات مهامّ تقنية تتعلّق بتنظيم الاستفتاء(25/07/2022)، والانتخابات التشريعية (17/12/2022). بل سيستمرّ وجودها سنواتٍ بعد ذلك، ما يعني احتمال إشرافها على الانتخابات الرئاسية المتوقّع أن يترشّح إليها قيس سعيّد، فيكون بذلك الخصم والحكَم في استحقاق انتخابي، تشرف عليه هيئة تابعة للرئيس في نظر كثيرين.

واللافت أنّ رئيس الجمهورية لم يستشر أعضاء هيئة الانتخابات، ولا مكوّنات المجتمع المدني في خصوص تعديل القانون الأساسي للهيئة. بل فعل ذلك بشكل أحادي وبطريقة فوقية. وبناء عليه، جرى الانتقال من هيئةٍ منتخبةٍ إلى أخرى معيّنة، ومن جهاز رقابي مستقل نسبيا إلى جهاز إداري تحت هيمنة السلطة التنفيذية.

ينتقل سعيّد بتونس من حكمٍ مؤسّسي، تعدّدي، إلى حكم أحادي، مغلق

سياسيا، أدّى صدور المرسوم الرئاسي القاضي بتغيير هيئة الانتخابات إلى تداعيات بارزة، أهمّها تعميق الانقسام الحاد داخل المجتمع السياسي بين أنصار الرئيس وخصومه. وجلّى ذلك اعتراض جلّ الأحزاب المعارضة، الوازنة (حركة النهضة، التيار الديمقراطي، حزب العمّال، الحزب الدستوري الحر) على القرار الرئاسي، واعتبروه "غير دستوري"، يكرّس الحكم الفردي، "ولا يسمح بإجراء انتخابات حرّة ونزيهة". في المقابل، رحّبت به أحزاب الموالاة للرئيس (حركة الشعب، التيار الشعبي، حركة تونس إلى الأمام، التحالف من أجل تونس). على صعيد متّصل، يعتري طيفا معتبرا من التونسيين شعورٌ بالإحباط، بسبب تركيز قيس سعيّد على إحداث تغييراتٍ سياسيةٍ ودستورية، ليست من صميم مطالب معظم الناس، الذين يتطلّعون إلى أساسا إلى إحداث نقلة اقتصادية نوعية، وتحسين أوضاعهم المعيشية، وتوفير خدمات القُرب، ومكافحة الفقر والبطالة. ويرون الرئيس، صاحب كلّ السلطات، لا يلتفت كثيرا إلى هذه المطالب. بل ينهمك في مناكفاتٍ مع خصومه السياسيين، وينصرف إلى حلّ (وتحجيم) مؤسسات مدنية، أنتجها مشروع الدمقرطة والثورة. وجعل ذلك الرئيس في شبْه غربةٍ عن شعبه بحسب مراقبين. وفي مستوى آخر، زاد تغيير الهيئة الانتخابية بقوّة المراسيم من عزوف كثيرين عن الشأن السياسي عموما، وتأكّد عدم حماسهم من التوجه إلى صناديق الاقتراع مستقبلا. ولسان حالهم يقول: ما الفائدة من المشاركة في استفتاء أو استحقاق انتخابي إذا كانت نتائجه معلومة مسبقا؟ وما الجدوى من ممارسة حق الاقتراع في ظلّ هيئة رقابية موالية للرئيس؟ لذلك، بات احتمال العزوف عن المشاركة في استفتاء 25/07/2022، والانتخابات التشريعية (17/12/2022) ممكنا.

ختاما، بإقدامه على تغيير هيئة الانتخابات على طريقته، يمضي الرئيس قيس سعيّد في تكريس صورة الرئيس الراعي، الذي يدّعي امتلاك الحقيقة، ويفكّر بدل الشعب، وبدل هياكله التمثيلية الوسيطة، وينتقل بالبلاد من حكمٍ مؤسّسي، تعدّدي، إلى حكم أحادي، مغلق. لذلك الحاجة أكيدة لتوحيد جهود المجتمع المدني من أجل إخراج البلاد من حقبة دولة المراسيم، ووضعها على سكّة الحكم الديمقراطي، التشاركي الرشيد.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.