تحدّيات أمام حكومة سارة الزعفراني في تونس
قيس سعيّد مستقبلاً سارة الزعفراني في قصر قرطاج (26/3/2025 صفحة الرئاسة التونسية في X)
أنهى الرئيس التونسي، قيس سعيّد، مساء الخميس (20 مارس/ آذار 2025)، مهام رئيس الحكومة السابق، كمال المدّوري، الذي لم يُعمّر في منصبه سوى سبعة أشهر. وعيّن خلفاً له سارة الزعفراني الزنزري، وهي رابع شخصية تتولّى قيادة الحكومة بعد حركة 25 يوليو (2021). وفسّر أنصار سعيّد تواتر التغيير في رئاسة الحكومة وهيكليتها خلال سنوات معدودة بإخفاق الحكومات السابقة في تحقيق الإصلاح الشامل، وتحويل المشاريع والوعود الرئاسية إلى واقع يحياه الناس. وعندهم أنّ رئاسة الوزراء تكليفٌ لا تشريف، ومَن لم يكن على قدّ تلك المسؤولية الكُبرى ومتعلّقاتها، من حقّ رئيس الدولة إقالته، عملاً بمحامل الدستور الجديد (2022)، الذي منحه صلاحيات واسعة. فيما يرى معارضون للمنظومة الحاكمة في تعاقب رؤساء الحكومات في فترة قصيرة علامةَ عدم استقرار سياسي، ودليلاً على هيمنة نظام/ رئاسي مطلق، وعدم وجود رؤية استراتيجية طويلة المدى لإدارة البلاد. ودعا سعيّد في أوّل لقاء جمعه برئيسة الوزراء الجديدة إلى "مزيد من تنسيق العمل الحكومي وتذليل الصعوبات لتحقيق انتظارات الشعب التونسي". ووعدت الزعفراني بالعمل على "مواجهة التحدّيات والتّسريع في نسق إعداد التّشريعات اللازمة، واستحثاث وتيرة تنفيذ الإصلاحات الاقتصاديّة، ودفع التّنمية، وتحسين خدمات المرفق العام موازاة مع الاستجابة للاستحقاقات الشعبية، وتحسين ظروف عيش المواطنين، والإحاطة بالفئات الهشّة".
يمكن التعويل على خبرة الزعفراني الميدانية، وتجربتها الإدارية الطويلة، في قيامها رئيسةً للحكومة بإصلاحات جريئة عميقة
وسارة الزعفراني الزنزري ثاني امرأة تتولّى رئاسة الحكومة في تاريخ تونس بعد نجلاء بودن، وهي خرّيجة المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس، ومعهد القيادة الإدارية بالمدرسة الوطنية للإدارة، ومتخصّصة في الهندسة المدنية، وحاصلة على الماجستير في الهندسة الجيوتقنية في جامعة هانوفر، وتُجيد العربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية. وهي ذات خبرة طويلة في العمل الميداني، امتدّت ثلاثة عقود من العمل المتواصل في وزارة التجهيز والإسكان، فقد تقلّدت مسؤوليات تقنية واستراتيجية عدّة تتعلّق بمدّ الطرقات ومراقبة إنجاز المنشآت الكبرى، وإدارة عدة مشاريع في البنية التحتية في البلاد. كما شغلت عضوية مجالس إدارة لشركات استراتيجية، مثل تونس للطرقات السيّارة وميناء النفيضة. وشاركت الزعفراني في دورات تدريبية في معهد الدفاع الوطني، وفي برامج متقدّمة في القيادة وتصرّف الأزمات. وهي ليست حديثة عهد بالعمل الحكومي، فقد تولّت إدارة وزارة التجهيز والإسكان منذ 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وبالتوازي مع ذلك، كُلّفتْ لفترة تسيير وزارة النقل. ويذهب طيف مُعتبَر من التونسيين إلى أنّ البروفايل الاحترافي لسارة الزعفراني، وخبرتها الميدانية، وتجربتها الإدارية الطويلة، معطيات مهمّة يمكن التعويل عليها في إجراء رئيسة الحكومة الجديدة إصلاحات جريئة عميقة، تؤدّي إلى تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، وتطوير أداء المرافق العمومية، وتيسير وصول المواطنين إلى خدمات القُرب. وتواجه الفريق الحكومي بقيادة الزعفراني تحدّيات عدّة.
من الناحية الاقتصادية، تولّت الزعفراني مقاليد رئاسة الحكومة في زمن صعب، فما زالت تونس تعاني تداعيات صدمات اقتصادية كبرى، منها معضلة كوفيد-19، والنزاع المحتدم بين روسيا وأوكرانيا، واندلاع حرب تجارية بين الولايات المتحدة ودول عدّة على خلفية ترفيع إدارة ترامب في الرسوم الجمركية على صادرات عدّة بلدان، منها تونس (28%)، وواكب ذلك كلّه ارتفاع في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وتراجع الطلب الأوروبي على المنتجات التونسية، فضلًا عن زيادة معدّلات الفائدة العالمية. وهو ما أثّر سلباً على مردودية القطاع الاقتصادي. وحاولت تونس التكيّف مع تلك الصدمات واستيعابها نسبياً.
وقد ورد في بلاغ (بيان) لرئاسة الجمهورية أنّ "تونس تمكّنت خلال يناير (كانون الثاني) الماضي من تسديد خدمة الدَّين العمومي بنسبة 40% من مجموع خدمة الدين العمومي المتوقّعة لكامل عام 2025. ونجحت في السيطرة على نسبة التضخّم في حدود 6%، بعدما كانت في العام السابق 7.8%، وتمكّنت من تحقيق استقرار ملحوظ في سعر صرف الدينار مقابل أبرز العملات الأجنبية في نهاية سنة 2024". كما شهد قطاع السياحة انتعاشاً على خلفية الاستقرار الأمني. فقد بلغت مداخيله حوالي مليارَي دولار مع مُوفّى العام الماضي، بسبب نمو السياحة الوافدة، التي ارتفعت عائداتها السنوية بنسبة 6%، لتستقرّ عند 6.241 مليارات دينار (1.98 مليار دولار)، ويساهم "القطاع السياحي بنحو 9% من الناتج المحلّي الإجمالي، ويوفّر 400 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة".
بلغ الدين العام قرابة 77% من الناتج المحلّي الإجمالي، مع احتمال وجود ضغوط لسداد الديون الخارجية التي تستنزف جزءاً كبيراً من الموازنة العامّة
لكنّ ذلك لا يمنع من أنّ مؤشّرات اقتصادية أخرى تثير القلق، فقد بلغ الدين العام قرابة 77% من الناتج المحلّي الإجمالي، مع احتمال وجود ضغوط لسداد الديون الخارجية التي تستنزف جزءاً كبيراً من الموازنة العامّة. وقدّر المعهد الوطني للإحصاء العجز التجاري التونسي في عام 2024 بـ18.9 مليار دينار تونسي (ستة مليارات دولار). وشهدت الصادرات التونسية في 2024 استقراراً مقابل زيادة بنسبة 2.3% في الواردات، خصوصاً واردات الطاقة التي ارتفعت بنسبة 9.1%، وتراجعت نسبة تغطية الواردات بالصادرات بـ1.8 نقطة مقارنة بعام 2023، لتبلغ 76.6%، وبلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة 0.8% من الناتج المحلّي الإجمالي خلال النصف الأول من العام 2023، مقارنةً بـ 2% في العام 2012، وتراجع حجم الاستثمارات المحلّية بنحو قياسي إلى 12.8% من الناتج المحلّي الإجمالي، فيما لم تتجاوز الاستثمارات الخاصّة حدود 7% تقريباً من الناتج المحلّي الإجمالي، وذلك لشحّ التمويل وكثرة التعقيدات الإدارية وضعف ثقة المستثمرين في مناخ الأعمال. وجاء في تقرير صادر عن البنك المركزي التونسي، أن نسبة الادخار المحلّي لا تتجاوز حدود 4.6% من الدخل القومي. ومع أنّ وكالة التصنيف الائتماني (موديز) حسّنت أخيراً الترتيب السيادي لتونس، تحتاج (تونس)، بحسب خبراء، إلى "التقدّم 6 درجات أخرى كي تخرج من المنطقة الحمراء (درجة المضاربة)، وتحظى بثقة المانحين في السوق المالية العالمية". وبناء عليه، فإنّ رئيسة الحكومة الجديدة معنية بكسب تحدّي الانتقال الاقتصادي، وتنفيذ إصلاحات عميقة لتحسين القدرة التنافسية، والحدّ من العجز التجاري لتونس، وجذب الاستثمار الأجنبي، فضلاً عن حوكمة الإدارة العمومية، وترشيد الإنفاق، وتطوير الإنتاج والإنتاجية، وتعزيز فرص تونس للانخراط في اقتصاد شبكي/ خدمي، معولم.
على الصّعيد الاجتماعيّ، تواجه الحكومة بقيادة سارة الزعفراني عدّة تحدّيات، لعلّ أهمّها معضلة انتشار البطالة (%16)، ومشكلة تزايد نسبة الفقر (16.6%) واتّساع البون بين الأغنياء والفقراء، وانحسار الطبقة الوسطى، والتفاوت الجهوي والتنموي بين المحافظات، خاصّة ما تعانيه المناطق الداخلية من تهميش استمرّ عقوداً، وهو ما يجعل الحكومة الجديدة معنيةً برسم خطط واضحة لدعم سياسة التّشغيل وتكريس اللامركزية التنموية والعدالة الاجتماعية، والعمل في تحسين المقدرة الشرائية للمواطنين، والحدّ من ارتفاع الأسعار، وشيوع الاحتكار، وتوفير الحاجيات الأساسية لمعاش الناس، خصوصاً الأدوية الحيوية والمواد الغذائية، وتأمين خدمات القرب (ماء، كهرباء، غاز...)، وتفعيل شعار "الإدارة في خدمة المواطن". ومن المهمّ بمكان وضع حدّ لهجرة الأدمغة، وبلورة استراتيجيات عملية لاستبقاء الطاقات الذكية في البلاد. وبات من الضروري معالجة ملفّ الهجرة غير النظامية نحو تونس في ظلّ تزايد أعداد القادمين إلى البلاد بطريقة غير شرعية من دول أفريقيا/ جنوب الصحراء، الذين غدوا كتلةً بشريةً مبعثرةً، تكبر بين يوم وآخر، وأدّى امتدادها العشوائي إلى تنامي مشاعر الكراهية ضدّ الوافدين الأفارقة غير النظاميين. وينذر ذلك بتغذية أسباب التوتّر وتهديد السلم الاجتماعي. وهو ما يقتضي تفعيل الدبلوماسية، وتعزيز التعاون مع شركاء تونس في أوروبا وأفريقيا للحدّ من اتجاه المهاجرين غير النظاميين إلى تونس، وتأمين عودتهم في وقت وجيز إلى بلدانهم.
نجاح الحكومة الجدديدة رهن بالانفراج السياسي وإشراك مكوّنات المجتمع المدني
من الناحية السياسية، تحتاج حكومة الزعفراني إلى تعزيز التنسيق بين الفريق الحكومي وجهات التنفيذ الإدارية، والمحلّية والجهوية. ولضمان ثقة رئيس الجمهورية، هي معنية بتنفيذ سياساته الواعدة، خصوصاً ما تعلّق باسترجاع الأموال المنهوبة، والأملاك المصادرة، وإصلاح المرافق العمومية، وتشغيل أصحاب الشهادات العُليا، وإطلاق مشاريع خدمية كُبرى، في مقدّمتها المدينة الطبّية بالقيروان. ويرى مراقبون أنّ الحكومة الجديدة تحتاج إلى تهدئة سياسية، من بين مضامينها تخفيف الاستقطاب بين المنظومة الحاكمة وأحزاب المعارضة، وتأمين اعتراف متبادل بين الرئيس وخصومه، والإفراج عن المعتقلين على خلفيات سياسية، وبلورة حوار جامع من أجل المصلحة العامّة على نحو يعزّز أسباب الاستقرار، ويبعث رسائلَ طمأنةٍ إلى الداخل والخارج.
صحيح أنّ الزمن السياسي الذي ظهرت فيه حكومة سارة الزعفراني صعب، وأنّ صلاحياتها محدودة والتحدّيات التي تواجهها عديدة، لكنّ ذلك لا يمنع من أنّ هذه الحكومة قادرة على فتح ورشات الإصلاح والتغيير في مجالات مختلفة، والتمهيد لانتقال اقتصادي وتنموي شامل. وذلك ممكن في حال تطوّر الأداء الإداري، وتحقّق الانفراج السياسي، وتعزّز التضامن الحكومي والرئاسي، وجرى إشراك مكوّنات المجتمع المدني في اتخاذ القرار من أجل خدمة المصلحة العامّة.