تاريخ العصامية والجربعة .. من هم المصريون؟

تاريخ العصامية والجربعة .. من هم المصريون؟

11 ديسمبر 2021
+ الخط -

في كتابه "تاريخ العصامية والجربعة .. تأملات نقدية في الاجتماع المصري الحديث" (مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، القاهرة، 2021)، يصحبنا الكاتب والسياسي، محمد نعيم، إلى رحلة غير معهودة من حيث اللغة والأفكار حول أسئلة تأسيسية عن تعريف المجتمع المصري نفسه، ورؤيته مستقبله.
في الباب الأول من الكتاب "خصال صاحبت رحلة التحديث"، يطرح نعيم فكرة أن الشعب والدولة في مصر اليوم هما امتداد تاريخي مباشر لرحلة بدأت قبل مائتي عام وليس آلاف السنين، حين أنشأ محمد علي جيشه النظامي، واضطر لتجنيد الفلاحين المصريين المعدمين. يذهب في الفصل الأول إلى "مكامن العصامية" المصرية تاريخيا، حين أدرك المصريون تدريجيا فوائد الانضمام للجيش النظامي أو للجهاز الحكومي المدني، وما يتطلّبانه من تعلم واكتساب لقيم الحداثة الغربية، في مناقضة لفكرة نمطية أخرى، هي رفض المصريين التغيير، وهنا تظهر قيم "العصامية" المحمودة، حيث الارتقاء هو نتاج اجتهاد الفرد وعلمه وعمله. ومن هنا، جاءت ظواهر تقديس التعليم والوظيفة الحكومية. في المقابل، تظهر قيم "الجربعة" التي يناقشها الفصل الثاني، وهي "الاستهانة بسلامة واتساق المنطق الأخلاقي بنحو يحرم صاحبه من الدرجة المطلوبة من احترام النفس واحترام الآخر، واحترام المعاني عموما".
يعدّد الكاتب طيفا واسعا من التجليات السياسية والاجتماعية للظاهرة، مثل تقديس النزعات الفردانية ورفض العمل الجماعي، واعتبار تمسّك أصحاب المبادئ بمبادئهم تعبيرا عن مثالية فارغة وغير عملية، واحتقار الثقافة ورفض كل تفكير مركّب بادّعاءات شعبوية عن ابتعاد هذه الأفكار عن "حقيقة الشعب"، واقتحام الحياة الخاصة للناس، وغيرها.
في الفصل الثالث، يطبق هذين المفهومين على "بعض من شفرات التمايز الاجتماعي المصري"، مثل تفضيل سمار اللون للرجال والبياض للنساء، وظاهرة الهوس بالحسد، وكذلك التصنيف الطبقي حسب اللهجة القاهرية، ولاحقا أصبح التصنيف تبعا لما ينطقه المرء من لكنةٍ إنكليزيةٍ صحيحة بعد ظاهرة "الأمركة".
في الجزء الثاني، يقدّم الكتاب "بعضا من ملامح تاريخ السيولة الاجتماعية"، حيث يؤكّد أن الشعب المصري شهد صعود وهبوط طبقات وقيم مختلفة، نافيا أسطورة الجوهر الثابت المقدس. ويتتبع الفصل الرابع محطات تاريخية، فكانت ذروة تمجيد "العصامية" في الخمسينيات، حيث مشروع عبدالناصر التحديثي والتنموي الجاد، لكنه افتقد القدرة وليس الإرادة حسب رأي الكاتب.
في الستينيات، بدأت الأزمة بصعود فئة "البرجوازية البيروقراطية" من كبار الموظفين، لكن قيم "الجربعة" لم يكن لها أن تسود إلا بعد "انتصار الهزيمة". والمقصود ليس الهزيمة بحد ذاتها، بل قدرتها على أن "تغير من طبائع المهزوم وتصوّراته عن نفسه". وهكذا، لم تكن هزيمة 1967 بحد ذاتها لحظة تحوّل، بل جاءت في منتصف السبعينيات.
ينتقل الفصل الخامس لمناقشة مؤثرات تاريخية خارج السلطة، مثل هجرة العمالة المصرية الكثيفة في السبعينيات، وكذلك الصحوة الإسلامية، والتي لا يراها الكاتب عنصرا غريبا، بل جذورها عميقة للغاية منذ نشأة دولة الحداثة المصرية، ويوجّه نقدا حادّا لتعميم الإسلاميين جدالات فارغة هيمنت على المجال العام عقودا.
يناقش الجزء الأخير من الكتاب ملامح "أزمة إعادة التأسيس"، حيث كانت ثورة يناير محاولة جادّة لإتمام الجمهورية المؤجّلة، وطرح أسئلة الاجتماع المصري، لكننا شهدنا ارتدادا غير مسبوق، شمل السعي إلى تدمير كل الأشكال التنظيمية السياسية والمجتمعية، حتى وصلنا إلى كراهية أي فكرة مركّبة وأي "كلام كبير".
بالمجمل يقدم الكتاب أفكارا طازجة تتناسب مع عصرنا، وإن غاب عنه المزيد من الاتصال بين فصوله، وكذلك غابت أي أدوات رصد أكاديمي، مثل استطلاعات الرأي وسواها، لكنه أوضح في مقدّمته أنه لا يقدم كتابا أكاديميا، إنما يطرح ما هو أقرب إلى "ملاحظات طويلة" من واقع رصده. .. في الفصل الأخير يقول الكاتب: "الوطن هو تجربة اجتماعية مستمرَّة، وليس نَقشًا فرعونيًّا على حجر منذ آلاف السنين، تجربة اجتماعية حيَّة، أساس العلاقة فيها بين المواطنين بعضهم ببعض أو مع الدولة ليس الاضطرار أو الارتهان المتبادَل، بل سيادة القانون القابل للتنفيذ فعلًا، استنادًا إلى عقلانيته ومشروعيته، في وقتٍ أصبح وضع مبادئ جديدة لجمهورية جديدة أمرًا مُلِحًّا وليس تَرَفًا".