تأمّلات ما بعد الستّين
(لؤي كيالي)
الشجر في النهار يمنحنا الأوكسجين وفي الليل يأخذه ثانية، كان قد خطّط لشراء نباتٍ ظِلّ كي يُهوّن قليلاً من كربات الكتب في المكتبة، ويخفّف من حدّة المعارك ما بين المتخاصمين في قضايا الأدب أو الفلسفة، وقد يدخل عليه نمس يشرب من ماء الزرع، ثمّ يخرج من المنور سعيداً من دون أن يراه أحد.
تنقصه الأحجار وينقصة الزلط، وينقصه ذلك الفضاء الطري الذي يداعب الروح، وينقصه المطر والأغنام ورائحة الخبز في الأفران، وصوت انسكاب اللبن في القسط الفخّار المحروق، هل يكتب عن يمامتيْن، هل يكتب عن شجرة عنب، شجرة كان ينام تحتها أولاد أبو درباوي سعداء بجوار كلابهم والطلمبة، شجرة السعادة دائماً غامضة وبعيدة، كغموض وبُعد السعادة نفسها. الجبال رحبة بهمومها وضيّقة أيضاً على من يسعى وراء العيش، والمغرب قريبٌ من جلستنا، والعصافير بدأت في وداع النهار مغناجة بالأصوات والمرح، وخضار أوراق الشجر ستر جميل لأفاعيل الحبّ وللعصافير الصغيرة التي هبطت من أعشاشها من دون أن يكتمل ريشها.
عصافيري تكبر في مكتبتي مع ذكرياتي، وتملأ بيتي صبراً، وأنا أكبر ويكبر حزني معي، ذلك الحزن الذي تركته خلف ظهري وأنا أجري مدّة ستين سنة.
الموت ذلك الخطّاف، أعرف، فقد خطف أبو مصطفى وهو يخطو على الرصيف، وقد ملأ كل زكائبه بالأمل، مثل زكائبك تماماً رغم أنك تتدارى في غلالات الحزن، هل دائماً يتربّص الموت بذلك الشخص الشاهق في أمله كمدينة متينة من الإسمنت تستعصي حتى على الصواريخ؟
العصافير لها أيضاً مهرجان في الغروب مثل مهرجاناتنا الفنّية تماماً، ومن دون أن يرعاها أحدٌ بالمال أو النجمات الجميلات، قلبي بسيط في لحظات الغروب ويكتفي بالقليل من النعمة، وفي الوقت نفسه يخشى من غدر الأيام، أعرف أسرار الورد، ولا أخجل من نفسي أبداً، حتى ألمس طرف ثوب الحظّ وأكون سعيداً؛ العصافير ما قبل الغروب أو في ساعة الغروب تعزف موسيقىً تعرفها جيداً، موسيقى بلا نوتة ولا آلات، أرواح فقط تغرد جائعة أو شبعانة في آن، وأنت لا تعرف ذلك الحدّ الفاصل، لأنك لا تلمس رقابها كما تلامس ذلك الورد الساكن على أغصانه في غنج خجول.
ما بين خضار أوراق الشجر ترى هناك سماء تشتاق لليل المقبل، سماء تشبه الجبال وصبر المساكين وأحلام العصافير الخفيفة وندرة الفطنة وحياء الحسن، سماء لا تسأل أحداً عن ذلك اليوم الآتي وما فيه من أحداث أو مجاعات أو مهرجانات للساسة تشبه إلى حد كبير مهرجانات النجوم بالقرب من البحر، إنه العشم في نيل الحظوظ التي تغدر بالجميع في نهاية العمر، فلماذا فجأة تتحوّل المناظر الجميلة والبسيطة كلّها، التي كانت بالقرب من النهر إلى عمارات أو بنوك، حتى جلسة المساكين بالقرب من النهر باتت بعيدة المنال.
كل يوم تزداد الحدائق فقراً وتزداد جهامة المدن وقسوتها وتمتلئ الشرفات بنباتات الصبّار، كأنها بالفعل قطّة فوق غرفة زجاجية في مقدّمة فندق ابن خصيب، ومن ساعة تمشي الهوينى ثمّ تعود، وكأنها تنتظر وليفها ولا وليفها جاء ولا القطة كفّت عن الحركة، وأنت هناك في جلستك تتأمل الحظوظ، وقد امتلأت البركة الصغيرة تحت شجيرات الورد بالحصى، ولا بلغت سنغافورة ولا وصلت للهند. وحدها العصافير فقط في سعادة، ووحده الورد يجلس على الأغصان وبدايات الغروب هناك تراها ما بين الشجر في موسيقى العصافير.
جلس الرجل هناك يراقب الحظّ وهو زعلان من حظوظ أولاده، ومن القرى التي كانت سعيدة وشبعانة، وهرب أولادها إلى المخدّرات أو الهجرة، حتى الأحجار لا تجد في الجبل من يشحنها بعد ما ذهب العيال والعمّال إلى اليونان وقد انشغلوا بالفلوس والهرب، هو جاء كي يبحث عن الحكمة فقط، فحمل على ظهره من الهموم.
الرجل لا يكفّ عن الكلام عن الجبل، ولا يكفّ عن ذكر اليونان، وجوازات السفر وتأخّر التأشيرات المرسلة إلى العيال من اليونان بعد ما دفعوا دماء قلوبهم، وأنا هناك في الهند، قد أتعلم الحكمة في يوم، قبل أن أموت بقليل في الهند أو إندونيسيا، وقد أموت وحيداً بلا حكمة.