بَيعُ القرد والضحكُ على شاريه

25 مايو 2025

(ياسر صافي)

+ الخط -

حضرت السياسةُ في الدورة 78 لمهرجان كان السينمائي، حضوراً عجائبيّاً مراوغاً، طاغياً من ناحية، قريباً من "رفع العتب" من الناحية الأخرى. ولم تنفع بعض الاستثناءات في تغيير الصورة، ولا حتى عند الإشارة إلى المخرجة الفلسطينيّة فاطمة حسّونة التي اغتالتها إسرائيل في عملية قصفٍ بشعة، لكن فعل اغتيالها ظلّ على لسان رئيسة الدورة "مبنيّاً للمجهول". لقد استحقّ الجميع "أصفاراً" في السياسة بوصفها شهادة وموقفاً ومسؤوليّة، لكنّ الجميع بدوا سياسيّين عباقرة من جهة حرصهم على عدم التورّط في أيّ مضمون أو موقف واضحٍ ممّا يحدث في غزّة.

يذكّرك هذا بما حدث يوم الثلاثاء 14 مارس / آذار 2022، حين دعت جمعيّةُ المؤلّفين والمخرجين والمنتجين (ARP) الفرنسيّة، الرئيس الفرنسيّ السابق، فرانسوا هولاند، للخوض في علاقة السياسة بالسينما. علاقة تلتقي عند تقاطع مثير للاهتمام. وقد أعرب هولاند، بنبرةٍ يغلب عليها الحنين، عن أسفه لأن السينما الفرنسية لا تتوغّل بما يكفي في دهاليز السياسة، مقترحاً فكرة فيلم بعنوان "القرار"، يعيد تشكيل العمليّات الجماعيّة التي تؤدي إلى اتّخاذ قرارات سياسيّةٍ غالباً ما نرى نتائجها من دون معرفة خباياها. ولعلّ أهمّ ما خلص إليه الرئيس السابق أنّ السياسة تمرّ بأزمة خيال، محليّاً وعالميّاً، وأن في مستطاع السينما إلهام السياسيّين أفكاراً جديدة.

ليس هذا الجدل بالأمر الطارئ. في ثلاثينيات القرن العشرين، حينما كان المدّ الشموليّ يجتاح أوروبا، ظهرت تحليلات كثيرة، بعضها أكثر دقّة، بخصوص التداخل بين السينما والسياسة. من هذه التحليلات ما قدّمه الفيلسوف الألماني والتر بنيامين (1892-1940) والناقد الفرنسي أندريه بازين (1918 - 1958). إذ أشار الأوّل إلى قدرة التقنية السينمائيّة على تغيير نظرة المشاهد إلى نفسه وإلى العالم. بينما ألمح الثاني إلى قدرة المبدع على دحر السياسي، مشيراً ببعض السخرية، إلى أن هتلر سرق شارِبَ تشارلي شابلن، لكن هذا الأخير واجهه وانتقم منه بفيلم "الدكتاتور".

اختلف الأمر في هذه الدورة من مهرجان كان. انسحب سينمائيّو المواجهة وتقدّم سينمائيّو المراوغة. سينمائيّون كثيرون خسروا مصداقيّتهم بسبب ممارستهم لعبةً "سياسواتيّة". كما خسر سياسيّون كثيرون مصداقيّتهم بسبب تجرّئهم على السينما "الفالصو". ليس لأنّ أولئك أو هؤلاء حاولوا أن يكونوا غيرَ ما هم عليه، مبدعين، أو سياسيّين، بل لأنهم قرّروا أن يُصبحوا كلّهم مخرجي أفلام "واقع موازٍ". لقد أبدعوا في إنتاج الأزمات، ثم ظهروا أبطالاً خارقين آيتُهم إلهاءُ الناس عن إصلاح ما أفسدوه. لذلك يُطلق عليهم العامّة في تونس لقب "المُفَلِّمين"، من فلّم يُفلِّم تفليماً، أي مارسَ السياسةَ بوصفها خدعةً سينمائيّة، ويضيفون أنّ مهنتهم: "بيع القرد والضحك على شاريه".

والحقّ أنّهم يتقاسمون المهنة ذاتها: مهنة التمثيل. السينمائيّون يمثّلون على الجمهور بينما السياسيّون يمثّلون به. إلاّ أنّ الأمر لا يخلو من بعض الفوارق. السينما إِحلامٌ لكنّ سياسة اليوم إرغام. السينما تخييل أمّا السياسة السائدة فتضليل. السينما تخدع لتُدهش وتحثّ على التفكير، أما السياسة فتخدع لتوهم المتفرّج بأن الأزمة مشهد مؤقت وأن الحلّ في نهاية الفيلم، تلك النهاية التي لا تأتي، والتي لن تأتي إلّا إذا كفّ المشاهد عن التصفيق، لأن هذا العرض لا يستحق أكثر من مقاعد فارغة.

هكذا يكشف حلم فرانسوا هولاند بفيلم مثل "القرار"، عن الثغرة الأساسيّة في المشهد: غياب سينما تبحر في أعماق السياسة لتفكيك سرديّاتها، وغياب سياسة تتعلّم من السينما الصدق الذي يحقّقه الخيال. بذلك نستطيع الوقوف في وجه العاصفة. لقد نجح تحالف السياسة والمال، نسبيّاً، في إقصاء الشعراء والأدباء والمفكّرين. همّشهم وغيّبهم ووصمهم، وأقنع "الجمهور" بالابتعاد عنهم بوصفهم "نخبة متعالية". بقي الدور الآن على فنون الفرجة. هذا التحالف يريد إبعاد كل "الإبداع" والإبداع السينمائي تحديداً عن المشهد. يريد "تسفيله" عن طريق منظومة الترغيب والترهيب الإغراء والتجويع. يريد إرغامه على أن يكون مجرّد "تسلية"، مجرّد "ترفيه"، مجرّد "entertainment". أخطبوط السياسة والمال يريد من السينما، وفق العبارة التونسيّة الشعبيّة "بيع القرد والضحك على شاريه". المشكلة أنّ ثمّة وقتاً لكلّ شيء. قد يتاح "بيع القرد" فترة، بل قد يتاح حتى "الضحك على شاريه". لكن لوقتٍ محدود. هذه أمورٌ يمكن أن يقوم بها غداً أيّ برنامج خوارزمي، ولا مناص من البحث عن "حلّ إبداعي" وإنساني للمسألة.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.