بين مؤتمر الحسكة واتفاق طائف سوري

22 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 03:00 (توقيت القدس)
+ الخط -

ليست الأزمة السورية راهناً في الاستحقاق الحكومي المُتعذّر إنجازه فقط، وثمّة خلط مقصود بين "الشرعية" السياسية و"الشريعة" من قادة دمشق، بملء الفراغ الناجم عن سقوط نظام الأسد من طريق التوظيف السياسي للدين بكلّ تأويلاته المُعلَنة، وبكلّ ما ينطوي عليه من تداعياتٍ خطيرة... بل الأزمة أيضاً في انفلات موجات العنف الممنهج، فهناك حقيقةٌ جليّةٌ يجري تجاهلها عمداً، أنّ أحداث السويداء والساحل السوري الدموية لم تكن مجرّد صدامات طائفية مارقة، قادتها تيارات سلفية متشدّدة أو فزعات عشائرية انتقائية، مخلّفة صدوعاً وطنية عميقة، بل هي اللحظة التاريخية المؤجّلة التي أسقطت استراتيجية التسويات الظرفية للطائفية المظلمة القابعة في قلوب السوريين، وفضحت عمق الأزمة البنيوية التي تعصف بسورية ما بعد الأسد.

تمخّض عن ذلك انقسامٌ نفسي ومجتمعي لا بدّ سينتهي بتقسيم جغرافي (إنْ لم يُقوّض)، تدلّ على هذا مظاهرات السويداء الماضية المُطالِبة بالاستقلال التام عن سورية. كما لا يمكن في هذا المقام إغفال حقيقة أنّ مجازر الدروز والعلويين نقلت الاستقطاب الطائفي إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، يدعمها التفكّك المجتمعي الذي عزّز الهُويَّات المناطقية والمذهبية، التي شكّلت (أقلّه جزئياً) آليةً دفاعيةً استباقية، ردّاً على الهواجس القلقة المتعلّقة بمصير "الأقليات" السورية.

ترتّب على كلّ ما تقدّم مشهدٌ سوري غاية في التعقيد عطّل الدولة على مذبح الطوائف المُثقلة بالمظلوميات والأحقاد. واليوم يُعاد تفعيل قرار مجلس الأمن 2254 لتأكيد ضرورة الانتقال السياسي السلمي ووقف الأعمال العدائية، ليزيد الطين بِلَّة تحت قدمَي سلطة دمشق التي تعاني حالةً مزمنةً من التخبّط والارتباك، على اعتبار أنّ البديل يحتاج عمليةً تراكميةً عاليةَ الكلفة وشديدة الخصوصية. على التوازي، يُعقد مؤتمر الحسكة في 8 أغسطس/ آب الجاري، مفاجأة غير متوقّعة، تحت مسمّى مؤتمر "وحدة الموقف" بقيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وبمشاركة ممثّلين عن المكوّنات العرقية والطائفية في البلاد، دعماً لتشكيل حلفٍ وطني يوحّد المطالب المشتركة، بدايةً لحوار حقيقي مع دمشق، معزّزاً رؤية "قسد" في إقامة نظام حكم لامركزي، استعداداً لدمج قواتها في الجيش السوري بشرط الاحتفاظ بهيكليتها توجّساً من تهديدات جمّة، ليس أولها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولا آخرها فزّاعات "الفزعات المخابراتية"، الأمر الذي أغضب دمشق التي أكّدت رفضها المشاركة في أيّ مفاوضات جديدة مع "قسد"، معتبرة المؤتمر طعنةً مؤلمةً لمسار التفاوض، بذريعة تدويل القضية السورية، وفتح أبواب التدخّل الخارجي.

وبالتساوق مع الدلالة البالغة لتعنّت سلطة دمشق بعيداً من أيّ مسوّغاتٍ سياسية منطقية، لا يمكن فصل مؤتمر الحسكة عن المشهد السياسي المأزوم، باعتباره مقاربةً براغماتيةً تتفاعل مع حاجات الواقع الراهن، ولا عن شبكة المصالح الإقليمية والدولية التي تحرّك خيوط اللعبة، لتضمن حضوراً فاعلاً في أيّ تسوية مقبلة، مثيراً (المؤتمر) عاصفةً من النقدّ الحاد لانعقاده بعد اتفاق العاشر من مارس/ آذار بين دمشق و"قسد"، باعتباره محاولةً استفزازيةً صريحةً في مرحلةٍ شديدة الحساسية الطائفية، يؤسّس مرجعية سياسية بديلة أو موازية بعد فشل هيئة تحرير الشام في بلورة رؤى وسياسات واقعية لوقف حالة التدهور الوطني. رسمت مخرجاته شكل النظام السياسي المستقبلي، تراها دمشق تهديداً مباشراً لحكمها الموغل في المركزية، على أن ما يجري اليوم هو نواة "تحالف أقليات" أقرب ما تكون إلى حركةٍ تكتيكيةٍ مخاتلة تعكس، في جانب منها، نوعاً من الانتهازية، خصوصاً مع تنسيق واضح بين جهات كردية وشخصيات معارضة، درزية وعلوية، ما يمنح "قسد" ورقة ضغط رابحة تفتح المجال أمام اعتراف دولي بهذه المنصّة الجامعة لمكوّنات سورية تعاني أزمة ثقة عميقة مع حكومة دمشق. في المقلب الآخر، يعتبر مؤيّدو المؤتمر أنه خطوة لازمة لا يستغني عنها أيّ نظام سياسي مهما كانت أيديولوجيته ومصادر شرعيته الأخرى.

تبرز السعودية اليوم بمثابة قوة توازن إقليمية، وربّما تكون ضامنةً لإعادة ترتيب البيت السوري

وفي ضوء ما سبق، يدور حديثٌ مكثّف هنا وهناك عن اتفاق طائفٍ يُرتَّب لسورية، شبيه باتفاق الطائف اللبناني، وهو المرجعية الأولى الذي استمدّ منها اللبنانيون وفاقهم الوطني بعد حرب طاحنة استمرّت قرابة 15 عاماً، للدخول إلى جمهورية جديدة واعدة تتخلّص من سموم النظام الطائفي، بينما يؤكّد مراقبون أنّ اتفاقٍاً كهذا ليس إلا وصفةً مُحدَّثة للخراب، فالقبول بأيّ حلّ سيعيد تدوير حرب أهلية أبشع وأكثر فظاعةً، مستندين بذلك إلى النتائج الكارثية للنموذجَين، اللبناني والعراقي، إذ لا يمكن حلّ الملف السوري الطائفي من دون قراءة معطياته بعيداً من التحايل والتدليس في ضوء خريطة القوى الفاعلة على الأرض، التي تُعيد رسم حدود الدم وفق أهدافها الخبيثة المُضمَرة. ولكن، وبقدر ما تبدو هذه الفكرة جذّابةً لآخرين، إلا أنها تنطوي على محاذير عديدة، أبرزها أنّ اتفاق الطائف، ورغم أنه أنهى الحرب اللبنانية، إلا أنه لم يُنجز دولةً حديثةً بمؤسّسات فاعلة أو ذات ثقل ملموس، لتُختطف مجدّداً من أباطرة الحرب الأهلية، الذين تسيّدوا سلطةً متفسّخةً، تمّ تقاسموها على أساس المحاصصة الطائفية، فظلّ لبنان نموذجاً صريحاً للدولة الفاشلة، والأخطر أنّ الاتفاق جعل الطائفية أمراً مألوفاً في الشارع اللبناني، لتغدو بعد أكثر من ثلاثة عقود راسخةً في الوعي الجمعي والسلوك الوطني.

بعيداً من الإغراق في العموميات، لا يمكن أن ننكر أنّ السعودية تبرز اليوم بمثابة قوة توازن إقليمية، وربّما تكون ضامنةً لإعادة ترتيب البيت السوري، فالأولوية بالنسبة إلى الرياض استعادة الاستقرار في المنطقة، الذي يخدم مصالحها الوطنية، من منطلق "لا سلام من دون سورية"، على حدّ تعبير وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، خصوصاً أنّ غالبية المكوّنات السورية، التي لا تثق بالجانب التركي، كانت وجّهت دعوات إلى السعودية للتدخّل. ووفق هذا التموضع الجديد أتى، بدايةً، قرار ترامب بتجميد العقوبات الأميركية المفروضة على سورية، وإلغاء تصنيف هيئة تحرير الشام منظّمةً إرهابية، والدفع باتجاه مسارٍ حقيقي يَعِدُ بتسوياتٍ مع إسرائيل قد تنتهي بالتطبيع... إلخ.

مشهدٌ سوريٌّ غاية في التعقيد عطّل الدولة على مذبح الطوائف المُثقلة بالمظلوميات والأحقاد

ولكنّ التحرّك السعودي لن يكون كافياً، وسلطة دمشق لا تفلح في حلّ مشكلاتها الداخلية، متكلةً على معادلة غياب البديل لاستمرارها. هكذا تبدو سورية الجديدة أمام سيناريوهات خلاصٍ عدّة، دونها كثيرٌ من التحدّيات والمطبّات، على صعيد معالجة المسائل ذات الصلة بإقامة إمارة إسلامية خالصة تُنعِش العصب "الأموي"، وتنبذ "أهل الذمّة". أبرزها الخيار المتمثّل بإنشاء نظام بدستور حداثي ديمقراطي يضمن المشاركة العادلة لكلّ أطياف الشعب السوري، أو ربّما اعتماد نموذج الفدرلة العراقي، لأنّ المكوّنات السورية شبيهةٌ إلى حدّ كبير بمكوّنات الشعب العراقي، بقصد إعادة التوازن بشكل تدريجيٍّ ومدروس، لا يثير الحساسيات والمخاوف.

يأتي مؤتمر الحسكة ليسلّط الضوء على العلّة السورية الكامنة، وهي حساسية التوازنات وسط صدام المظلوميات المتأصّلة بين الطوائف، التي وصلت إلى حدّ الانفجار، مؤكّداً أن الحلّ الإسعافي يتطلّب صيغة حكم لامركزي، وهي ليست مشروع تقسيم، بل ضمانة لوحدة الدولة عبر حماية الهُويَّات المتنوّعة من الإقصاء. في المقابل، قد يمثّل اتفاق الطائف السوري إطاراً عامّاً لتسوية نزاعات المجتمع السوري، الذي يواجه مشكلات الإدماج وتقاسم السلطة، لكنّه ينطوي على تناقضٍ جوهري بيّن، وهو تناول الطائفية انعكاساً طبيعياً لواقعٍ مضطرم منذ عقود، سيبقى يغلي على الدوام بعد توكيل الطائفية السياسية نفسها بمهمة إنهاء الاحتراب الطائفي (!).