بين فلسطين وأوكرانيا: عنصرية التعاطف الانتقائي

بين فلسطين وأوكرانيا: عنصرية التعاطف الانتقائي

06 مارس 2022

(محمد الجالوس)

+ الخط -

حين يقول مراسل غربي إنّ اللاجئ الأوكراني "أبيض مثلنا"، ويقول آخر إنّ اللاجئين ليسوا من المسلمين أو من سورية أو أفغانستان، وإنّما "مسيحيون أوروبيون مثلنا" معبراً عن تأثره لذلك، من دون أن تبادر إدارة التحرير إلى فصله أو توجيه إنذار إليه، على أقل تقدير، فذلك يعبر عن احتقار للمعاناة البشرية، ويعني أنّ التعاطف مشروط بجيناتٍ عرقية دون أخرى، فالملوّن، أو العربي أو الأفغاني، لا يمكن أن تكون لديه الاحتياجات نفسها من غذاء وماء وأمان. وبناء عليه، لا يمكن أن يكون لدى غير الأوروبي أو الأميركي التقدير نفسه للرفاه والجمال. أما إمكانية الحلم وتحقيق الأحلام فبعيدة عنه، لأنّ الشعوب الأقل حضارة لن تفتقد ما لا تعرفه، فالعنصر الراقي، وفقاً لهذا التفكير، هو من يستطيع تقدير النظافة والحياة الحديثة، أي أنّ من لم ينتمِ إلى "الحضارة الأوروبية" لا يمكن له تقدير الرقيّ، وكأنّ الجينات تحدّد احتياجات الإنسان وأحلامه.

ليس هذا الأمر جديداً تماماً، لكنّ الجديد هو الصفاقة في التعبير عن مواقف غير أخلاقية، وكأنّها بديهيات، فعهد التظاهر باحترام حقوق الإنسان يشارف على النهاية، ذلك ليس جديداً تماماً، وانكشف غير مرّة في تعامل الغرب مع فلسطين والعراق واليمن، ومع ضحايا الحروب الأميركية في فيتنام والانقلابات العسكرية المدارة من الولايات المتحدة في الأميركتين، الوسطى والجنوبية، وفي أفريقيا وأماكن أخرى.

التعاطف لدى البعض مشروط بجيناتٍ عرقية دون أخرى، فالملون، أو العربي أو الأفغاني، لا يمكن أن تكون لديه الاحتياجات نفسها من غذاء وماء وأمان

جوهر التفكير العنصري أنّ "الحضاريين فقط" يحتاجون كميات وفيرة من الماء أو الغذاء، ولا تسألوا عن الترفيه والاستمتاع، لأنّ حاجات الأوروبي والأميركي تعكس "تقدّماً حضارياً" لم يصل إليه هؤلاء؛ "أي نحن" حتى وإن أبدع أبناء جنوب العالم الذين درسوا في الجامعات الأميركية والغربية، فإنّ إبداعهم، في منظور الغربيين، هو "نتاج للحضارة الغربية، وفي المحصلة؛ يصبح ملكاً للمجتمعات الغربية".

أذكر مرّة حدثني صحافي أميركي عن لقاء له مع خبير مياه إسرائيلي دافع عن سرقة الدولة الصهيونية المياه الفلسطينية بأنّ الإسرائيلي ينتمي إلى الحضارة الأوروبية، ولذا فهو بحاجة لحصص أكبر من المياه ليستحمّ ويبني المسابح، فقلت له إنّ هذه عنصرية فاضحة، فأجابني أنّ الخبير كان يتحدّث عن اختلاف العادات ولم يقصد أن يكون عنصرياً، وكان الصحافي يكتب عن فلسطين، ولم يرفّ له جفن حين رأى غضبي. وحين كنت مراسلة لصحف غربية في حرب عام 1991 (حرب الخليج الثانية)، مررت بتجربةٍ كادت تجعلني أترك مهنة الصحافة وأيأس من الإنسانية، ففي اليوم الثاني لمجزرة ملجأ العامرية في بغداد، بعد اختراق صاروخ أميركي الملجأ حيث احتمى عراقيون (وبعض العرب) أغلبهم من النساء والأطفال، حاولت أن أنقل في تقرير تفاصيل الموت المهولة، من اختفاء أثر لأجساد العراقيين بعد انصهارها مع جدران الملجأ، ومشاهد آباء فقدوا أطفالهم وأمهاتهم وزوجاتهم، وأحياناً أخواتهم، في دقائق. لكنّ الصحيفة رفضت نشر التقرير، وحين سألت المحرّرة عن المشكلة، أجابتني أنّ التقرير "عاطفي"، فسألتها عمّن تتحدثين، فأجابت أنّ الناجين الذين قابلتهم كانوا في حالة "هستيرية" في كيفية التعبير عن صدمتهم وفجيعتهم، فسألتها عن مشاعرها لو كانت مكانهم؛ فأجابت: سأكون في حالة هستيرية.

أن يعتقد المرء أنّ عِرقه أو حضارته يعطيانه وحده الحق بأن يعرب عن وجعه، وكأنّ الشعوب الأخرى لا تستطيع أن تحمل نفس المشاعر وتعبر عنها، فتلك سقطة التعاطف الانتقائي. ولا يعني هذا أنّ جميع الصحافيين الغربيين يتَّسِمون بالعنصرية، لكنّ ما نشهده الآن هو تعاطف انتقائي مع اللاجئين الأوكرانيين، ينبع من فكرة التفوّق نفسها، ليس بالعقل والتفكير فقط، بل وبالقدرة على الشعور بمعاناة الغربيين أنفسهم؛ فالتعاطف الانتقائي لا ينبع من تضامن إنساني أممي، وإنما بما تحكمه المرجعية القيمية لمن هم أكثر حضارة، ومن هم أقل حضارة، وبالتالي، إحساساً. والأدهى أن تلقى هذه الانتقائية استجابة وعدم استنكار أو شجب من قطاعات واسعة من الجمهور المتلقي في المجتمعات الغربية.

التعاطف الانتقائي المبرمج جزء من دعاية حلف الناتو وأميركا والحكومات الغربية في سعيها إلى تثبيت عالم القطب الواحد

ليست العنصرية العرقية التفسير الوحيد لهذا السلوك، فجزء كبير مما نراه من تعاطفٍ انتقائي أنّ إعلاميين ومسؤولين غربيين كثيرين، ومنهم فنانون ومبدعون، هم خاضعون للأيديولوجية السياسية، اعترفوا بذلك أو لم يعترفوا، فتجد إعلاميين ومراسلين غربيين، وتعاملت مع عدد منهم في العراق وفلسطين ولبنان، لا يتحدّون، ولو للحظة عابرة، حكوماتهم، فنراهم يحكمون على موضوع أو حدث ويقفون ضده أو معه وفقاً لتعارضه أو اتفاقه مع الموقف الرسمي الغربي.

يحق لنا أن نتساءل كيف مرّت جريمة معسكرات الاعتقال في غوانتنامو وأبو غريب، وكذبة وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وجرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين، وأمثلة اعتداءات غربية عديدة وصارخة؟ ومنها ما يحدُث أمام كاميرات التلفزيون مرّت عقوداً، على الرغم من التوثيق وشهود العيان. نعم، نشهد تغييراً، لكن، إذا حسبنا مرور الزمن؛ فهو بطيء، ولم يهزّ العالم إلى درجة إحداث تغييرٍ جذري. ويبدو مؤكّداً أنّ كثيرين يستطيعون برمجة إنسانيتهم وفقا للمصالح الغربية، ليست المصالح الخاصة فقط، وإن كان ذلك أحد أسباب تبلّد المشاعر، وتعطيل الضمائر، لكن كما شهدنا آخر أسبوع، فإعلام الغرب يؤمن بالهيمنة الاستعمارية الأميركية، ويخشى أن يفقدها فيتغير عالمه المريح من ميزات التفوّق الغربي على الشعوب.

جزء كبير مما نراه من تعاطفٍ انتقائي أنّ إعلاميين ومسؤولين غربيين كثيرين، ومنهم فنانون ومبدعون، خاضعون للأيديولوجية السياسية

لا ينتقد هذا المقال التعاطف الإنساني مع اللاجئين الأوكرانيين، لكنّ التعاطف الانتقائي المبرمج يصبح جزءاً من دعاية حلف الناتو وأميركا والحكومات الغربية في سعيها إلى تثبيت عالم القطب الواحد، ومنع ظهور أي قوة مقابلة. وهو بالضبط ما يحدُث في المواجهة بين الغرب وروسيا؛ فبغضّ النظر عن الموقف حيال الاجتياح الروسي لأوكرانيا، فالتعاطف مع الأوكرانيين ومعاناتهم طبيعي ومطلوب، لكنّ استخدامه لأهداف "الناتو" وأميركا جريمة بحد ذاته.

لا يمكن للإنسان الأوروبي أو الأميركي إلّا أن يتأثر بخطاب النفاق الذي يُغرِق الشاشات، ويصمّ الآذان في الإذاعات، ويطل علينا جميعاً عبر الإنترنت... خطاب مزيف وكاذب بإدانة الغزو الروسي، والتمسّح بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، فتاريخ أميركا وبعض الدول الأوروبية وحاضرهما ملطخان بدم ضحايا "دعست" قواتهم وعصابات حلفائهم، ليس على حقوق الإنسان والقانون الدولي فحسب، وإنما عملت على إبادة النفس البشرية لضحاياهم.

نحن نعيش في عالم يسمح لإسرائيل إدانتها "الاحتلال الروسي لأوكرانيا" ويصفق لها، فيما تستمر في احتلال وتشريد واقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه. والقصة ليست ازدواجية المعايير، بل إنها معايير "كاذبة"، يجب أن يُصدَم منها الشعب الفلسطيني والشعوب المقهورة، لأنّ كلّ هذه الادعاءات تُظهِر حقيقة عمق ظلام قلب الاستعمار، وما عداء هؤلاء للشعوب المقهورة إلا لخوفهم من فكرة الحرية، فأصحاب القضايا العادلة يرفعون راية الحرية، وهذا أكثر ما يخيف الاستعمار، إذ ليس له اسمٌ آخر غير الاستعمار.