بين جهاز الدولة المصرية وحركات التغيير
(أيمن صلاح طاهر)
أشار كاتب هذه السطور في مقال سابق (الدولة المصريّة والتغيير بين القديم والحديث، "العربي الجديد"، 2/3/2025) إلى طبيعة العلاقة بين التغيير والجهاز الإداري للدولة، وما طرحته الأكاديميّة نلّلي حنّا عن طبيعة الجهاز الإداري الذي أنشأه المماليك، وصموده أمام محاولات التطويع والاختراق عقب سقوط مصر تحت الاحتلال العثماني، إذ لم يستطع العثمانيّون أن يُحكموا سيطرتهم الكاملة على "أسرار" الجهاز البيروقراطي الهائل للدولة المصريّة، إلا بعد نحو ثلاثة عقود كاملة، أيّ أن جهاز الدولة ظلّ متمسّكاً بعناده، مستعصياً على التسليم، طوال تلك الفترة، رغم سقوط البلاد تحت الاحتلال.
بعد ذلك، جاء محمّد علي ليؤسّس الدولة الوطنيّة الحديثة، وجاءت بصيغةٍ افتقدت التوازن بين الدولة والمجتمع لصالح الأولى، وأضفت نقاط قوّة عديدة على جهاز الدولة الذي ازدادت قوّته. وفي المقابل، سلبت المجتمع ما كان يتمتّع به من حيويّة وحركة ذاتيّة، فقد تضخّم جهاز الدولة الإداري وتمدّد نشاطه، لا ليقوم بوظائفه السياديّة التقليديّة فقط، ولكن ليحلّ محلّ وجوه النشاط الأهلي للجماعات المختلفة، أو ليُحكم سيطرته على ما لم يحلّ في محلّه منها، فيُلحقه بنشاطه المركزي، وفقاً لما ذكره طارق البشري في كتابه "جهاز الدولة وإدارة الحُكم في مصر المعاصرة" (دار نهضة مصر، القاهرة، 2025). فقد أحكمت دولة محمد علي قبضتها على التكوينات المجتمعيّة، وكبّلت ما كانت تتمتّع به من الإدارة الذّاتية بعيداً من هيمنة جهاز الدولة، مثل الأوقاف الأهليّة، والطرائق الصوفيّة، ونقابات الطوائف الحرفيّة. وقامت تلك التكوينات بدور كبير في مقاومة الاحتلال الفرنسي، عبر تشكيل أوعية تنظيميّة للمقاومة الشعبية ضدّ الفرنسييّن، فجاءت دولة محمد علي وسحقت بمطرقتها تلك التكوينات المجتمعيّة، وجعلتها خاضعةً للهيمنة المتسلّطة للجهاز الإداري للدولة، واستمرّت هذه الصيغة قائمةً حتى جاءت ثورة 1919 لتمنح المجتمع مساحةً قليلةً للحركة في مواجهة سلطة الدولة، خاصّة في الفضاءَين السياسي والثقافي.
جاءت دولة محمد علي وسحقت بمطرقتها التكوينات المجتمعيّة المصرية، وجعلتها خاضعةً للهيمنة المتسلّطة للجهاز الإداري للدولة
ثمّ جاء انقلاب العسكر (23 يوليو/ تمّوز 1952) ليؤسّس نظاماً سلطويّاً، ودولةً استبداديّةً في المقام الأوّل، سحقت بمطارقها وسنابكها المكتسبات كلّها التي حقّقها المجتمع في الحقبة الليبراليّة (1922 - 1952)، فألغت دولة يوليو (1952) الأوقاف الأهليّة، كما ألغت الأحزاب السياسيّة، وأمّمت المجال العام إجمالاً وتفصيلاً، ودمجت الوظيفة السياسيّة في الوظيفة الإداريّة، من جهة الأجهزة المنوط بها ذلك، وآل الأمر إلى تولّي أجهزة الأمن الأداء السياسي التنفيذي المتوحّد، وفقاً لطارق البشري.
ثمّة نقطتان جديرتان بالالتفات والنظر عن العلاقة بين التغيير وجهاز الدولة في مصر، الأولى أن أيّ تغيير أو حركة إصلاحيّة حدثت في تاريخ مصر الوسيط والحديث (على السواء) جاءت من داخل جهاز الدولة، أو على الأقلّ برضاها، كما أن الشخصيّات التي قادت تغييراً جاءت من داخل الدولة، بدءاً من صلاح الدين الأيّوبي وسيف الدين قُطز، مروراً بمحمد علي وأحمد عرابي، وانتهاءً بسعد زغلول وجمال عبد الناصر، وأن مصر لم يحكمها أحد طوال تاريخها من خارج جهاز إدارة الدولة. أمّا الثانية، فهي أن جهاز الدولة المصريّة جهاز عتيد راسخ عتيق، مهما بدا أنّه يعاني الترهّل أو التفكّك، وأن ذلك الجهاز لم يرفع راية التسليم أو الإذعان لأيّ طرف يأتي من خارجه، بل إنه يفعل النقيض تماماً في مواجهة أيّ محاولة للسيطرة عليه من طرف من خارجه، فيقوم جهاز الدولة على الفور بشقّ عصا الطاعة على ذلك الطرف، ويأبى التسليم لكلّ محاولات إخضاعه.
ثمّة مثالان كاشفان في هذه النقطة، رغم الفاصل الزمني الكبير بينهما. الأوّل عقب ثورة 1919، والثاني عقب ثورة يناير 2011. كان الملمح اللافت الذي استوقف المؤرّخين تردّد سعد زغلول باشا في قبول الوزارة، رغم الاكتساح الوفدي الهائل لمقاعد البرلمان في انتخابات عام 1924 بنسبة 90%، فقد ظلّ سعد زغلول متردّداً عشرة أيّام كاملة في قبول الوزارة، حتى حسم أمره بعدها استجابةً للثقة الشعبيّة غير المسبوقة. كان زغلول زعيماً ثوريّاً فذّاً، لكنّه أيضاً كان رجل دولة من طراز رفيع، يدرك جيّداً مدى تعقّد بنية الدولة المصريّة، ومدى صعوبة السيطرة عليها، لأن جهاز الدولة صعب المراس، وإجباره على الإذعان أمر ليس يسيراً، لهذا لم تأخذه نشوة الانتصار الساحق في الانتخابات البرلمانيّة، فأدرك منذ البداية أن دخوله القلعة أو قبوله الوزارة، يعنيان معركة طاحنة وصراعاً مريراً في الداخل مع أصحاب تلك القلعة، فإمّا أن ينجح في فتح أبوابها للشعب، وإمّا أن يصير محاصراً داخلها، وإن لم ينجح في فتح أبوابها، صار سجيناً وقُضي عليه.
في المقابل، تمخّضت الانتخابات البرلمانيّة في 2011، عن حصول الإخوان المسلمين وحلفائهم على أغلبيّة المقاعد بنسبة 70%. هنا تفرض المقارنة نفسها بين المشهدَين، مشهد تردّد سعد زغلول في قبول الوزارة رغم حصوله على 90%، ومشهد حالة النرجسيّة العاتية، والغطرسة الشديدة، التي أصابت قيادات جماعة الإخوان المسلمين، عقب حصولهم على الأغلبيّة في الانتخابات البرلمانيّة التي أُجريت في أواخر 2011، رغم أن ما حصلت عليه الجماعة (باحتساب بقيّة المقاعد التي حصل عليها شركاؤهم من المُتنطّعين المُتسلّفين، الذين لعبوا دوراً كبيراً في الإجهاز على تجربة التحوّل الديمقراطي، وطعن ثورة يناير، سيّما دورهم في تأجيج الاستقطاب الإسلامي - العلماني، ودفعه إلى نقطة اللاعودة، وقد انساق "الإخوان" وراءهم بغباء لا مثيل له، في قضايا عجيبة مثل "الضبّاط المُلتحين"، وغيرها، وهو أمر سيتكفّل التاريخ وحده بكشف خلفيّاته) كان لا يتجاوز 70% من مقاعد البرلمان، والأعجب هو التناقض الشديد بين لسانَي الحال والمقال في خطاب الجماعة، بين الحديث عن الزهد في السلطة، في حين أن الواقع كان يسير في الاتجاه المضادّ. أصابت النسبة 70% الجماعة برغبة عارمة في الاستئثار بالمواقع والمناصب كلّها، رغم أن الجماعة في الأصل (في أفضل توصيف لها) كيان محافظ، ولم يكن يوماً ثوريّاً في أيّ مرحلة في تاريخه.
كان الصراع الذي شهدته مصر في 2011 صراعاً للهيمنة على البنية السلطويّة القديمة، وكانت المعركة الخطأ التي استغرقت الجميع
فضلاً عن إغفال نقطة مهمّة، تتمثّل إشكاليّة العلاقة بين الدولة والمصريّة وجماعات الإسلام الحركي، التي تستبطن فكرة "الكيان الموازي" للدولة الوطنيّة، فقد ترسّخ في العقل الجمعي لمؤسّسات الدولة المصريّة، في نسختَيها الملكيّة والجمهوريّة، أن جماعات وتنظيمات الإسلام الحركي، بشقَّيها السلمي والعنيف، هي مصدر التهديد الأوّل الذي يتربّص بالدولة، ويسعى لاختراق مؤسّساتها بتشكيل تجمعّات حركيّة داخلها، يربطها تنظيم هرمي يسعى لابتلاع الدولة، وتقديم نفسه بديلاً منها. هذا فضلاً عن الميراث الصراعي الدموي الطويل المرير بين دولة 23 يوليو (1952) والإسلامييّن. الشاهد هنا أن الصراع الذي شهدته مصر في 2011، كان صراعاً للهيمنة على البنية السلطويّة القديمة، وكانت المعركة الخطأ التي استغرقت الجميع، بينما أغفلت القوى الثوريّة توجيه جهودها لمحاولة تحرير المجتمع من قبضة الدولة، وفتح آفاق الحركة أمامه. والأدهى، أن جماعة الإخوان المسلمين سعت سعياً حثيثاً إلى "تطويع" مؤسّسات الدولة والسيطرة عليها من أعلى، أو إعادة طلاء البنية الفاسدة القديمة من دون إعادة هيكلتها، ومن دون إدراك طبيعة جهاز الدولة والعقيدة التي يقوم عليها، ممّا منح الفرصة لتلك المؤسّسات من أجل إعادة الاصطفاف والتكتّل، ثمّ الانقضاض عليها وابتلاعها لاحقاً، والمؤكّد أن ما جرى كان سيجري بصورة أو بأخرى. قد تختلف التفاصيل، لكنّها كانت ستقود إلى مشهد النهاية نفسه من دون تغيير يُذكَر، بينما يردّد القوم خطابهم القديم المكرور من دون اعتبار.