بين القاهرة وأبوظبي

بين القاهرة وأبوظبي

04 ابريل 2021
+ الخط -

يحدُث أن تكون العلاقات بين دولةٍ عربيةٍ وأخرى ممتازة، غير أن من الشطط أن توصَف بأنها تحالفية أو استراتيجية، ولم يحدُث يوما أن كانت علاقاتٌ عربيةٌ بينيةٌ كهذه. ولمّا أطنب معلقون وثرثارون في صحافات مصر والإمارات، في السنوات السبع الماضية، في وصف العلاقات بين البلدين بأنها كذلك، إنما كانوا يُشهرون جهلهم بالبديهيات، أو بالفلكلوريات السياسية العربية في تسميةٍ جائزة. ببساطةٍ، لأن اختلالا جوهريا في زاوية النظر التي يرون منها تلك العلاقات الحارّة بين القاهرة وأبوظبي، عندما يُغفلون أن صاحب القرار في عاصمة الإمارات يرسّم خياراته وحساباته، ثم يتوهّم لنفسه أدوارا مركزيةً ليس في الجوار والإقليم وحسب، بل في ثلاثة أرباع الأرض، ويَفترض أن على صاحب القرار في مصر أن يلتحق بسياساته ورهاناته. والبادي أن هذا الافتراض ولقاء سياسات أبوظبي والقاهرة ورهاناتهما كانا حاضريْن في مسار العلاقات المتحدّث عنها منذ إطاحة الرئيس محمد مرسي وبدء حملة التنكيل ضد الإخوان المسلمين، وتاليا ضد كل أصحاب رأي آخر، وترسيم السلطة على نحوٍ يصادر المجال العام، ويرتدّ على التمرين الديمقراطي الذي كان واعدا. وقد قوبل هذا كله بدعمٍ غير محدود من أبوظبي التي انتدبت نفسَها لوظيفةٍ قيادية، وبكل الوسائل والأساليب، في هدم ما وعدت به ثوراتُ اليمنيين والتونسيين والسوريين والليبيين والمصريين في 2011، وفي محاربة خيارات صناديق الاقتراع في غير بلد عربي.

من طبائع الأحوال وحقائقها أن تتبدّل حسابات الدول إذا استجدّت متغيراتٌ توجِب هذا، سيما إذا تعلقت بالمصالح. ومن بالغ العادية أن يصحّح أهل القرار في القاهرة ما في مدارك نظرائهم في أبوظبي بشأن السياسة كيف تُصنع، وأن يخفّفوا من غلواء أوهام هؤلاء في غير أمرٍ وشأن. والبادي قدّامنا أن شيئا من هذا وذاك صار يحدُث، منذ شهور. وربما تتدحرج الأمور إلى خلافاتٍ قد تصير عميقةً، إذا لم تُموقع أبوظبي نفسَها جيدا مع القاهرة، فليس أمرا عارضا أن الأخيرة لم تلتفت أبدا إلى دعوة شقيقتها الخليجية إلى استضافة لقاء مصري إثيوبي سوداني، تتوسّط في أثنائه، في أزمة ملء سد النهضة الإثيوبي. وفي موضعه تماما الاستياءُ الذي عبّرت عنه أوساطٌ مصريةٌ رسميةٌ، وإنْ في تسريباتٍ شحيحة، من بيان الخارجية الإماراتية، بعد إطلاق الرئيس عبد الفتاح السيسي "الخط الأحمر" الثلاثاء الماضي بشأن مياه النيل، لما بدا فيه من برودٍ ظاهر، على غير الحرارة الضافية في بيانات الرياض وعمّان والمنامة مثلا. ولم تتجاوز الحقيقةَ تخميناتٌ ذاعت، في وسائط إعلامية، عن خيبة أملٍ مصريةٍ من أبوظبي، عندما لم تستخدم علاقاتها القوية جدا مع أديس أبابا، لكي تتعامل هذه بكيفيةٍ أخرى، عقلانيةٍ ومرضيةٍ مثلا، في المفاوضات والمحادثات مع مصر بشأن أزمة الملء الثاني للسد. وعندما لم توظّف استثماراتها الضخمة في إثيوبيا لمصلحة مصر في قضية وجودٍ وحياة وموت بالنسبة لها، والحديث أن هناك 92 مشروعا إماراتيا في عدة قطاعات في هذا البلد.

أما أن الحكم في مصر تدارك أحوالَه في ليبيا، وتراجع خطواتٍ منظورةً عن اندفاعه وراء الإمارات في الدعم العسكري والسياسي المهول لمجرم الحرب، خليفة حفتر، في عدوانه المعلوم على طرابلس، فذلك لأن "حساب السرايا لم يأت كما حساب القرايا"، بمعنى أن الميدان فرض انعطافة القاهرة، والنأي عن رهانات أبوظبي الخائبة، بل والمضي في تفاهماتٍ، استخباريةٍ وسياسية، مع تركيا، ليس فقط للدفع باتجاه حل سياسي في ليبيا، وإنما أيضا لتدارك المصالح المصرية نفسها التي ثبت أنها تفرض خياراتٍ أخرى غير التي يفترض الحاكمون في عاصمة الإمارات أنهم قادرون على إنجازها بالمال وبالمسيّرات الصينية والمليشيات التي تتلملم من مجنّدين سودانيين وتشاديين وروس، وكانت ظنونٌ فيهم أن الجيش المصري سوف يفعلها ويوصل حفتر إلى الرئاسة في طرابلس. وليس سرّا أن القاهرة لم تلتزم غير مرة بتنسيقٍ عسكريٍّ مع الإمارات (وفرنسا؟) كان مفترضا في بعض جولات الحرب التي حُسمت بهزيمةٍ مشهودةٍ لمشروع حفتر، بعونٍ تركيٍّ معلن. ولم يعد سرّا أن الأجهزة السيادية في مصر توصي بعلاقاتٍ أوثق مع أنقرة، لما فيها من منافع على غير صعيد.

وعندما تندفع أبوظبي في علاقاتٍ تصل إلى التحالف مع إسرائيل، فإن للقاهرة أن تتحسّب، فترتاب من اتفاقيةٍ بينهما بشأن تطوير ميناء حيفا، مع حديثٍ يتواتر عن خط أنابيب لنقل النفط من الخليج إلى أوروبا عبره، من دون المرور من قناة السويس .. إذا صحّ هذا (وغيره)، وقد صحّ ما ورد أعلاه (وغيره)، فإن ما بين القاهرة وأبوظبي سيختلّ علنا.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.