بين الضفة وغزة .. احتلال مطلق ومقيَّد

بين الضفة وغزة .. احتلال مطلق ومقيَّد

31 ديسمبر 2021

طفل فلسطيني يحمل علم فلسطين عند شاطئ غزة (28/12/2021/Getty)

+ الخط -

الضفة الغربية وقطاع غزة يتقاطعان في المعاناة من الاحتلال، إلى جانب معاناتهما من الانقسام، لكنَّ الضفة أكثرُ انكشافًا، ويدُ الاحتلال ومستوطنيه فيه مطلقة، ومن أجْدَد ما طرأ، على العلن، تعليماتُ قيادة جيش الاحتلال للجنود بإطلاق النار على مُلقِي الحجارة والعبوات الناسفة، من الفلسطينيين، حتى بعد انتهائهم، ومغادرتهم أماكن المواجهات، وذلك وَفْق القناة الإسرائيلية العاشرة. ولا تقتصر هذه التعليمات بإطلاق النار على تقدير جنود الاحتلال وجود خطر يتهدّد حياتَهم، ومِن شأن ذلك تكثير عدد القتلى في صفوف الفتية والشبَّان الفلسطينيين، وهو الذي تجسَّد فعلًا، في الفترة الأخيرة. وتتّسق هذه التعليمات مع إعدام قوَّات الاحتلال الشاب الفلسطينيّ، محمد شوكت أبو سليمة، مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بعد أنْ أصاب بجراحٍ أحدَ المتدينِّين اليهود في القدس؛ فبعد أن أصابه الجنودُ، وكان ملقًىً على الأرض ينزف، ولا يشكّل أيَّ خطر، أطلقوا عليه النار، وأردَوْهُ قتيلًا، وأثنى كلٌّ مِن رئيس حكومة الاحتلال، نفتالي بينت، ووزير خارجيَّته، يئير لبيد، على الجنود، وطالبَ نفتالي بمدِّهم بالدعم الكامل. وزادت اعتداءات المستوطنين، وتوسَّعت جرائمُهم، وشهدت قرية برقة، قضاء نابلس، تطوُّرًا نوعيًّا، بمهاجمتها مِن نحو مائة مستوطن، وبحماية قوَّات الاحتلال، في وقتٍ دفعتْ فيه حكومةُ الاحتلال بمزيدٍ من الجنود إلى الضفة الغربية؛ تحسُّبًا، واستعدادًا لاشتباكاتٍ أوسع، بعد موجة من العمليات الفردية الفلسطينية. بالتوازي مع زيادة الممارسات التنكيليَّة بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

لا يزال الوضع المعيشي والعام في غزة صعبًا، بعد سنواتٍ من الحصار الاحتلالي الهادف إلى شلِّ الحياة؛ إثر هيمنة حركة حماس على القطاع عام 2007

أما غزة، فلا يزال الوضع المعيشي والعام فيها صعبًا، بعد سنواتٍ من الحصار الاحتلالي الهادف إلى شلِّ الحياة؛ إثر هيمنة حركة حماس على القطاع عام 2007. ولا تزال إعادةُ الإعمار ورقةَ ابتزازٍ لفصائل المقاومة، و"حماس" التي تتحمَّل مسؤوليةَ إدارة قرابة مليوني فلسطيني يعانون ظروفًا إنسانية لا تُحتمَل.

ولكن، في جوهر المشهد اختلافٌ مهم، فالجهة الفلسطينية المسؤولة في الضفة الغربية دفعتْ ثمنًا سياسيًّا استراتيجيًّا، وهو الاعتراف بدولة الاحتلال، مع الالتزام بتبعات هذا الاعتراف، وأهمُّها الامتناعُ عن مشاركة السلطة بأيٍّ من أشكال العنف ضدَّ الاحتلال، والتنسيق الأمني معه؛ ( في اللقاء الذي جمَع أخيرا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ووزير دفاع الاحتلال بني غانتس، صرّح الأخير بأنَّ الاجتماع "ناقش اتِّخاذ إجراءات اقتصادية ومدنية، وشدَّد على أهمية التنسيق الأمني، ووقف الإرهاب والعنف")؛ لمنْع هجمات فلسطينية على أهدافٍ احتلالية، مع وضعٍ اقتصادي ومالي غيرِ متحرِّر من الاحتلال واقتصاده. ولذلك يجد قادةُ الاحتلال أنفسَهم في حِلٍّ من دفْع أيِّ أثمان مقابلة، اللهمَّ ما تسمح به حكومتُهم من بوادر محدودة، من قبيل لمِّ شمل العائلات، ومنح فلسطينيين هُويَّات فلسطينية، وكتخفيف القبضة على حركة العُمَّال الفلسطينيين، من الضفة الغربية، إلى أراضي الـ 48.

يحسب الاحتلال حسابًا لغزَّة، ويأمل أنْ يفرض معادلة جديدة في الضفة

أما الفلسطينيون في القطاع فبيدهم ورقة المقاومة، من دون أنْ يقدِّموا أثمانًا سياسية، وأهمُّها الاعترافُ بدولة الاحتلال، مع أن "حماس" تسعى إلى الشرعية الدولية، إلا أنها لا ترهن خيارها المقاوِم بهذا الطموح، فهي، مثلًا، لم تغيِّر نهجَها، ومواقفها، بعد تصنيفها من الحكومة البريطانية حركةً إرهابية. ومع أن أهل القطاع يدفعون أثمانًا مؤلمة؛ جرّاء سيطرة حركة حماس عليه، ويقعون بذلك تحت رحى المقايضات بين "حماس" والجهات الدولية والإقليمية والعربية الرسمية، إلا أن الحركة تتوفَّر على خياراتٍ لتحسين أوضاع الغزيِّين. وعلى ذلك، بدأت مصر بتفعيل الإجراءات الهامَّة المتعلِّقة بتيسير حركة السفر، عبْر معبر رفح؛ تنفيذًا لمَطْلَب رئيس للفصائل الفلسطينية؛ للتخفيف من معاناة أبناء القطاع؛ تفاديًا لموجة تصعيد محتملة؛ بسبب غضب الفصائل، وفي مقدمتها حركة حماس؛ لمماطلة الاحتلال في الوفاء بتعهداته؛ مقابل تثبيت وقف إطلاق النار، بين الفصائل الفلسطينية في القطاع، وقوَّات الاحتلال، بعد معركة سيف القدس، في مايو/ أيّار الماضي. كما ذكرت صحيفة هآرتس العبرية إن "إسرائيل تعتزم الإعلان عن سلسلة من التسهيلات الاقتصادية، لقطاع غزة منها زيادةُ تصاريح العمل، داخل الخط الأخضر، ومواد لإصلاح القوارب، وغيرها من مواد كانت محظورة، في السابق؛ لأنها ذات استخدام مزدوج، (يمكن استخدامها أيضًا في تصنيع الصواريخ، والطائرات بدون طيَّار)، وذلك بهدف الحفاظ على الهدوء، وعدم تصعيد الأوضاع مع حركة حماس. ومع ذلك، لا يدَّعي الكاتب أن الأوضاع تحت الاحتلال، سواء لجهة حماس، أو لجهة السلطة، بالطبع، مثاليّة، أو حتى قريبة من الحياة الطبيعية، فالفصل واقع بين الضفة وغزة مستمرّ، ويُعمَل على تكريسه، والقدس لا تزال تتعرَّض، وبكثافة، للتهويد والانتهاك اليوميِّ المتزايد، والمستفزّ. وتكاد النضالات الراهنة تتَّخذ أولويَّات تتقدَّم تلك القضايا الجوهرية والاستراتيجية، وهذه الانشغالات، نتيجة خلل في الموقع، كما هي السلطة، أو نتيجة إكراهات، أو شبه إكراهات تئنُّ "حماس" تحتها، بعد أنْ ارتضت تحمُّل أعباء مسؤولية عامة.

يخفِّف الاحتلال الضغوط الاقتصادية، بتسهيل تنقُّل العُمَّال الفلسطينيين إلى الداخل، مع إطلاق أكبر لأيدي المستوطنين

وأخيرًا، يحسب الاحتلال حسابًا لغزَّة، ويأمل أنْ يفرض معادلة جديدة في الضفة، فمِن تجاربه في جولات المواجهة مع فصائل المقاومة، في غزة، لم يصل إلى جدوى الحلِّ العسكري، ولم يَسْلَم، في كلِّ مرَّة، مِن خسائر، مادية، أو معنوية، لجهة تآكُل قوة الردع، بل وتعرُّض جبهته الداخلية لتعطيلٍ ملموس، كاد يصل في مناطق مركزية، وفي أوقات معيّنة حدَّدتْها المقاومةُ إلى درجة التوقُّف. فضلًا عن استمرار تضرُّر صورة إسرائيل، أمام الرأي العام العالمي، هذه الصورة، وإنْ لم تُتَرْجَم في سياساتٍ عقابيةٍ دولية، إلا أنها وسَّعت دائرةَ التعاطُف مع القضية الفلسطينية، كما مدَّدت مساحاتِ المقاطعة لها، ولمُنتجاتها، ومُنتجات المستوطنات.

أمَّا المعادلة التي يبدو أن الاحتلال يأمل في فرْضها في الضفة فتهدف إلى الإخضاع، بعد أنْ قدَّر أنَّ البيئة الأمنية باتت مساعِدة، وأنَّ الفصائل والتنظيمات الفلسطينية باتت أكثرَ تحجيمًا، أو تفكيكًا، كما شهدنا، أخيرا، مِن تقييدات على الكُتَل الطلابية، في الجامعات الفلسطينية التي تُعَدّ مِن مصانع الروح النضالية والتوعية السياسية؛ فهو يخفِّف الضغوط الاقتصادية، بتسهيل تنقُّل العُمَّال الفلسطينيين إلى الداخل، مع إطلاق أكبر لأيدي المستوطنين، وانتهاكات أكثرَ تكثيفًا للمسجد الأقصى، وتعليمات مشجِّعة لجنود الاحتلال بالقتل. لكنَّ الواقع أنَّ العامل الاقتصادي لا يستحوذ على الدوافع الفلسطينية، وأنّ الاعتداءات التي تستهدف تدجين الكرامة لا يمكن السيطرة على عواقبها.