بين الصحافة والسياسة
يفغيني بريماكوف وطارق عزيز وونستون تشرشل ومحمد حسنين هيكل
بين الصحافة والسياسة جدارٌ من ورق. هناك صحافيون لا يزاولون المهنة بقناعات سياسية محدّدة، بل انطلاقاً من انتماءات حزبية. ولكن حتى الصحافي المنشغل مهنياً بمتابعة الشؤون السياسية يجد نفسه متورّطاً في السياسة، حتى لو لم يلج المعترك السياسي، إذ يجد نفسه قسراً مصنفاً سياسياً من قرّاء غالباً أو ربما ساسة أحياناً. لا يعتمد هذا التصنيف، بالضرورة، على رؤاه الفكرية أو مواقفه المهنية، فغالبية التصنيفات تحملها أهواء تراوح مصادرها بين التمجيد والتبخيس. لذلك قد تجد صحافيين انزلقوا إلى المعترك السياسي ردَّ فعل لتصنيف، بغض النظر عن كونه عادلاً أو ظالماً. في بعض هذه الحالات، نخسر صحافياً ولا نربح سياسياً. في المقابل، ثمة نشطاء سياسيون اقتحموا بلاط الصحافة في سياق شهواتهم للسلطة... ألا يصفون الصحافة بالسلطة الرابعة، حتى ولو في بلدٍ فيه سلطة واحدة؟! في مثل هذه الحالات، لا نكسب صحافياً ولا نخسر سياسياً.
***
لا تنفي تلك الحالات وجود صحافيين يغريهم بريق السلطة فيكسرون أقلامهم من أجل المناصب. رغم وجود صحافيين يسخِّرون أنفسهم من أجل خدمة الساسة، إلا أن التكسّب ليس غاية كل أولئك، فالتكسب المهني حرفة من ليس له أخلاقيات المهنة أو دافعه غايات سياسية وطنية، فبالاضافة إلى الصحافيين المنشغلين بما تُعرّف مهنياً بالصحافة السياسية، يجرف التكسّب بعضاً من صالات الصحافة الفنية، مثلاً، أو ميادين الرياضة. تعرّي هذه الهجرة كم هو ذلك الجدار الفاصل بين السياسة والصحافة سهل الاختراق، بل هو عند بعضهم جدارٌ وهمي. أجهض مثل هؤلاء المتكسّبين حقوق رجالٍ بذلوا بالتزامهم المهني عرقاً لا يقلّ غزارةً عن حبرهم، وتحملوا كلفةً تزيد من نبالة مواقفهم. من هؤلاء من أثبت للصحافة هيبة "السلطة الرابعة"، ومن رفع قلمه في وجه إغراءات المناصب، ومن مارس السلطة بعقلية الصحافي فما احتملوا السلطة أو ضاق بهم محترفو المناصب.
***
لعل محمد حسنين هيكل لا يجسّد فقط أبرز الصحافيين العرب، بل هو أيضاً أفضل من يمثّل من استمسك بتعظيم القلم على المنصب، كما أنه خير شاهدٍ على عدم احتمال الصحافي البقاء في السلطة وضيق أهل السلطة بالصحافي. أبعد من ذلك، ربما هيكل نفسه أحسن من كتب عن "العلاقة بين الصحافة والسياسة" في كتابٍ ممتعٍ بهذا العنوان، استعرض فيه بعض سيرته المهنية. مزج هيكل بين الصحافة والسياسة في واحدةٍ من أكثر تجليات تلك العلاقة وضوحاً وتأثيراً، لكأن صحيفة الأهرام كانت على أيامه إحدى مؤسّسات رئاسة الدولة النافذة. لكنه، في الوقت نفسه، حافظ مهنياً على الجدار الفاصل بين الصحافة والسياسة على قدر ما حافظ على النأي بـ"الأهرام" من مأسسة الدولة. رغم اعترافه في كتابه بأنها العلاقة الأكثر تعقيداً. عقّد هيكل تلك العلاقة على نحوٍ شكّل عقدة لكل من أنور السادات وحسني مبارك مثلما هو أيقونة في الصحافة المصرية استحال إعادة نسجها ممن حاولوا من مجايليه أو ممن مظاهيريه.
لا يجسّد محمد حسنين هيكل فقط أبرز الصحافيين العرب، بل هو أيضاً أفضل من يمثّل من استمسك بتعظيم القلم على المنصب
***
لعلّ طارق عزيز تميّز بتألّقه في السياسة أكثر من رصيده في الصحافة، رغم أنها منصّة انطلاقته الأولى، فمن رئاسة تحرير صحيفة الثورة، الناطقة باسم حزب البعث، صعد وزيراً للإعلام ثم للخارجية، فغدا الناطق باسم العراق كله في جميع المنحنيات التاريخية إبّان رئاسة صدّام حسين، خاصة سني حربي إيران والكويت. هو مجسّد مواقف سيده المنافح وصوت سيده الفصيح، لكنه وضع على لقاءاته الدبلوماسية والصحافية لمساتٍ من ذاتيّته الأنيقة المتعجرفة، حتى لكأنه نسخة من شخصية رئيسه.
***
مثل هيكل، نال ونستون تشرشل شهرة على أعتاب الحياة مراسلاً حربياً، إذ كلّفته "ديلي غرافيك" بتغطية صراع كوبا من أجل الاستقلال قبيل سفره إلى الجزيرة الكاريبية. وحصل على تكليفٍ من "مورنينغ بوست" بينما كان في مهمّة في السودان ضمن جيش كيتشنر هازم الثورة المهدية. وعقب عودته، كتب مؤلفه "حرب النهر"، ليكتسب أهمية واحد من المراجع لتلك الحرب الاستعمارية. ثم اتّجه تشرشل إلى جبهات التنافس السياسي، فقاد بريطانيا إبّان الحرب العالمية الثانية رئيساً للوزراء. هو لم يتألق فقط رجل دولة، بل ظل يمارس الكتابة الصحافية، ما جعله الكاتب الأعلى أجراً.
لم يتألق تشرشل رجل دولة فقط، بل ظل يمارس الكتابة الصحافية، ما جعله الكاتب الأعلى أجراً
***
في سياق الاستعادة، لا يمكن تخطي يفغيني بريماكوف، فهو رجل لا شبيه له في شرق أوروبا، هو نسخة "سوفياتية" إنسانية، إذ ولد في أوكرانيا، ثم تفتّحت طفولته في جورجيا قبل الانتقال إلى روسيا يلتحق بجامعات موسكو ومعاهدها. هو صحافي محترف في منصّات وأجهزة إعلامية متعدّدة. من إدارة القسم العربي في هيئة الإذاعة، انطلق بريماكوف مراسلاً ثم محرّراً قبل رئاسة القسم. انتقل من الصحافة المسموعة إلى المكتوبة في صحيفة برافدا، فتدرّج كذلك فيها حتى أصبح مراسلاً لها في الشرق الاوسط متّخذاً من القاهرة مقرّاً دائماً. في هذه المهمة، أمسى بريماكوف صحافياً معروفاً على نطاق عالمي ومحاوراً مألوفاً لدى عدد غير قليل من الرؤساء والسياسيين والقرّاء العرب. على صعيد الدولة، شغل عدة مناصب، بينها رئاسة المخابرات الخارجية، رئاسة وفود بعثات روسية خارجية، قبل شغله منصب وزير الخارجية في 1996، ثم رئاسة الحكومة بعد عامين.
***
حملت تيارات الهجرة من الصحافة إلى السياسة وجوهاً عديدة كما هي في الاتجاه المعاكس، لكن طحالب وعناكب كثيرة غرقت بين الضفتين، فذهبت كزبد البحر. لأن من طبْع هؤلاء غزل خيوط في لزاجة بيوت العنكبوت بالكذب والتزلّف والرياء على أي الضفتين وجدوا. حاول غالبيّتهم العبور بوهم سهولة اختراق جدار الورق الفاصل بين الصحافة والسياسة، فأمسوا فصيلاً من المنبتين... الأنظمة الشمولية تهيئ مواسم لتكاثر مثل هذه المخلوقات.