بين الشيء وعكسه

بين الشيء وعكسه

16 مايو 2022

(أحمد الشرقاوي)

+ الخط -

قرّرت السلطات في مصر تخفيف القيود على استيراد بعض السلع والمواد الخام. وذلك بعد أسابيع قليلة من فرض قيودٍ مشدّدة بموجب قواعد سابقة جرى استحداثها قبل أشهر. وبادر الاتحاد المصري لكرة القدم إلى تقديم شكوى إلى الاتحاد الأفريقي اعتراضاً على منح المغرب حقّ استضافة المباراة النهائية في دوري أبطال أفريقيا. وبدأ من أيام العمل بتعديلات مستحدثة على قانون تسجيل الملكية والشهر العقاري، كان البرلمان المصري قد أقرّها العام الماضي، قبل تجميدها والاتجاه إلى مراجعتها وتأجيل العمل بها.
وهناك أمثلة كثيرة على تراجعاتٍ اضطرّت لها السلطات المصرية، منها ما يتعلق بملفاتٍ شديدة الأهمية والخطورة، مثل قانون التصالح في مخالفات البناء، والذي تسبّب في جدل واسع وحالة من القلق والتوتر سادت معظم أنحاء مصر تقريباً، بسبب غموض بنود القانون والالتباس في كيفية تنفيذه واستيفاء متطلباته. الأمر الذي أجبر السلطات، في النهاية، على التراجع، وإعلان تعليق العمل بالقانون بحالته الراهنة، وإدخال تعديلات إجرائية عليه، تجعله أكثر وضوحاً وقابلية للتطبيق. ومن التراجعات أيضاً، قرار الحكومة المفاجئ إيقاف المفاوضات مع شركة صينية لتصنيع سيارة كهربائية في مصر، وذلك بعد أن قطعت المفاوضات مراحل مهمة والاتفاق تقريباً على كل جوانب المشروع.
وفي شهر رمضان الماضي، خرج وزير الأوقاف بقراراتٍ كانت شديدة الاستفزاز للمصريين، تضمّنت منع الاعتكاف تماماً، وتقصير مدة صلاة التهجّد إلى دقائق معدودة، ومنع صلاة العيد في الساحات المفتوحة مع عدم اصطحاب الأطفال. وبعد أن تسبّبت تلك القرارات غير المبرّرة في ردود فعل غاضبة لدى قطاعاتٍ واسعة من المصريين، خصوصاً بين البسطاء منهم، تراجع الوزير عن قراراته (أو قرارات الدولة). تماماً كما جرى التراجع عن قرار إغلاق مسجد الحسين خلال رمضان، بحجّة إكمال تجديده، ثم التراجع وفتح المسجد أمام المصلين ليتضح أن التجديد قد اكتمل، وأن الرغبة في إغلاق المسجد كان تحضيراً لأن يفتتحه السيسي في أواخر رمضان.
وهكذا تتعدّد الأمثلة والحالات التي تتسرّع فيها الحكومة المصرية باتخاذ قرارات أو سن قوانين، ثم تتراجع وتعدّلها أو حتى توقفها. والمشترك بينها جميعاً هو الخروج بتلك القرارات على نحو مفاجئ، من دون تشاور مع المختصين، ولا استمزاج للرأي العام. وعلى الرغم من أن القرارات تأتي في كل مرة غامضةً وغير مبرّرة، إلا أن إعلام الدولة (الرسمي والموالي) لا يفتأ يدافع عنها ويروّجها. ثم هو الإعلام نفسه يعود ويبرّر ويروّج عكسها، حين تتراجع السلطة عنها. 
قد لا تمثل بعض الأمثلة المذكورة أهمية عملية كبيرة، فمدلول السماح الانتقائي بصلاة العيد أو إغلاق مسجد الحسين رمزي، ويقتصر مردودها على المزاج العام للمصريين. أما القرارات المتعلقة بالاقتصاد، مثل منع استيراد المواد الخام اللازمة للصناعة أو بعض السلع الأساسية في صناعة السيارات، فهي خطيرةٌ على اقتصادٍ يعاني بشدة، وكفيلةٌ بتخويف المستثمرين المحجمين أصلاً عن الاستثمار في مصر. 
بعض تلك القرارات والقوانين مفهومٌ من ناحية الدوافع، مثل قانون مخالفات البناء الذي كان واضحاً أن غرضه الأساس رفع المتحصلات المالية للحكومة من الشعب. وبعضها الآخر غير مفهوم على الأقل علناً، مثل إلغاء التفاوض بشأن تصنيع سيارة كهربائية. لكن وضوح التفسير أو غموضه لا يلغي أن ثمّة تسرّعاً وخفة في عملية صنع القرار، خصوصا في السياسات العامة والقضايا ذات الصلة المباشرة بالمسائل الحياتية للمصريين. وإن كان في ذلك معنى سيئ، فهو افتقار دوائر صنع القرار للخبرات الحكيمة، أو بالتعبير الشائع غياب "رجال الدولة"، يظل المعنى الأسوأ هو الاستهانة بالرأي العام واستبعاده من الحسابات في كل مرّة.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.