بين السودان وميانمار .. مُقارباتٌ في التحوّل

بين السودان وميانمار .. مُقارباتٌ في التحوّل

23 فبراير 2021
+ الخط -

(1)
بعد نحو عامين من التوافق على ميثاق الأمم المتحدة الذي أرسى المبادئ التي تعزّز الاستقرار والأمن العالميين، وحماية البشرية من شرور الحروب، جاء الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اعتمده المجتمع الدولي منذ عام 1948، وأرسى قواعد إضافية للتعاون بين أعضاء المجتمع الدولي. أقرَّ ذلك الإعلان منظومة من القيم والمبادئ، تتحقق عبرها الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، تعزيزاً لصون كرامته على مستوى المجتمع الدولي. على أنّ ثورة الاتصالات والمعلوماتية، منذ بدايات الربع الأخير للقرن العشرين، حققتْ واقعاً جديداً، تجلّت مظاهره في العولمة التي دشّنت صحوة حقيقية نحو اعتماد المقولة التي شاعت إثر تلك الثورة، لكونها حوّلت العالم إلى قرية كونية صغيرة، متماسكة الأطراف. ساهمتْ ظاهرة العولمة في ترويج تلك القيم والمبادئ، فزاد وعي الشعوب بدرجاتٍ متفاوتة، بحقوقها في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. إلى ذلك، تداعى جماع المجتمع الدولي للمساندة الجادّة، ولدعم الشعوب في حراكها لاستعادة تلك الحقوق. ولم تقف تلك المساندة، وذلك الدّعم على الدور الذي تضطلع به منظمة الأمم المتحدة، بل صار زمام المبادرة بيد القوى الدولية الكبرى والمؤثرة، بما قد تجاوزَ بيروقراطية الأجهزة الأممية نفسها. عليه، فقد تراجع مبدأ قديمٌ يتصل بانغلاق البلدان على نفسها، إذ أتاح التحوّل المتصاعد نحو العولمة وشيوع الشفافية درجةً لم يعد معها مقبولاً التذرّع بعدمِ التدخّل في الشؤون الداخلية، حجّة لاستمرار انتهاكات منظومة القيم والمبادئ المتصلة بحق الإنسان في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم.

شهد العالم حالة الحراك الشعبي في فنزويلا، الذي كاد أن يحقق التغيير المطلوب، غير أن المسيرة توقفتْ، لتقاطع ذلك التحرّك بأجندات ومصالح إقليمية تخصّ قوى كبرى

(2)
يفسر ذلك كله حراك الشعوب وتململها من الأنظمة العسكرية والشمولية، التي لا تلتفت إلى القيم التي اعتمدها المجتمع الدولي، وتواصل السير بعيونٍ معصوبة في الاتجاه المُعاكس، والمُفضي إلى حرمان الشعوب حقوقها الأساسية في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. حراك بعض الشعوب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لاستعادة تلك المبادئ السامية هو ما أسموه ثورات الربيع العربي التي اندلعت موجاتها منذ عام 2011، فشهدنا تحوّلات تفاوتتْ درجات نجاحها أو فشلها، في بلدان مثل تونس وليبيا ومصر واليمن وسورية، ثم تواصلت تلك الموجة في سنواتٍ لاحقة في الجزائر والسودان، ولكن بتبايناتٍ بدت على أكثرها عثرات ومظاهر عدم استقرار متطاول. على أن ظاهرة حراك بعض الشعوب الرّازحة تحت أنظمة عسكرية أو شمولية باطشة لاستشراف التحوّل نحو الديمقراطية، لم تقتصر على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحدها، إذ امتدّت الأنظمة المارقة على تلك الحقوق إلى بلدان عديدة، خصوصاً في بلدان أميركا اللاتينية، وأيضاً بلدان في قارّة آسـيا. ها هيَ ميانمار، وقد استولى فيها العسكريون على السلطة، في انقلاب أجهز على حكومة منتخبة في تلك البلاد، لتشكّل بذلك تحدّياً لتوجّهات المجتمع الدولي نحو تعزيز الديمقراطية والحرية.
(3)
في نظرة إجمالية على محاولات التصدّي لمحاصرة الأنظمة التي تصرّ على انتهاكات حقوق الإنسان، والسعي إلى إجبارها على احترام هذه الحقوق، يلاحظ أنّ المجتمع الدولي، وإنْ تحرّك على مستوى الأمم المتحدة، بوصفها ضميراً لذلك المجتمع، فقد صحبته مبادراتٌ من كباره للتحرّك المباشر على مستوى العلاقات الثنائية، غير أنّ تحرّك القوى الكبرى، وإن جاء في إطار الحرص على تعزيز مبادئ الحكم الرشيد ودعم الديمقراطية والحرية والعيش الكريم، لكن أجندات خاصة، تتصل بالمصالح الاقتصادية والأمنية لأطراف تلك القوى الكبرى، خالطته أحياناً. لقد شهد العالم حالة الحراك الشعبي في فنزويلا، الذي كاد أن يحقق التغيير المطلوب، غير أن المسيرة توقفتْ، لتقاطع ذلك التحرّك بأجندات ومصالح إقليمية تخصّ قوى كبرى. وفي الأول من فبراير/ شباط الحالي، وقع انقلاب العسكر في ميانمار على الحكومة المدنية المنتخبة، وزجّتْ قادتها في المعتقلات. ثم فرضت الولايات المتحدة، بإدارتها الجديدة التي رفعتْ شعار العودة إلى تعزيز الديمقراطية في أطراف المجتمع الدولي، عقوبات قاسية على قادة انقلاب ميانمار، وحجبت معوناتها عن تلك البلاد. وتزامن هذا الإجراء مع ما صدر عن الأمم المتحدة من إدانة لانقلابيي ميانمار.

أسقط الحراك الشعبي في السودان نظاماً عسكرياً شمولياً، فانحازتْ فئات من العسكر إلى جانب الحراك، ودخل الطرفان في شبه تحالف عسكري - مدني

(4)
لو أجلنا النظر في التحرّك الشعبي الرّافض لانقلاب العسكر في ميانمار، مقارناً بما حدث لحراك السودانيين منذ ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018، الذي أسقط نظاماً عسكرياً شمولياً، وتوجّهَ العسكر بعد ذلك إلى التحالف مع الحراك الشعبي (وإن كان تحالفاً ملتبساً) لإدارة البلاد، سنجد تبايناً واضحاً في الحالتين. أسقط الانقلاب العسكري الصّرف في ميانمار حكماً ديمقراطياً منتخباً يعارضه الآن حراكٌ شعبيٌّ عارم. وفي السودان، أسقط الحراك الشعبي نظاماً عسكرياً شمولياً، فانحازتْ فئات من العسكر إلى جانب الحراك، ودخل الطرفان في شبه تحالف عسكري - مدني لإدارة فترة انتقالية لحكم البلاد، إلا أنّهُ بانت على بعض أطراف المكوِّن العسكري في ذلك التحالف الهَـشّ نياتٌ لإضعاف المكوِّن المدني. بادرت الأمم المتحدة بالترحيب بالتغيير الذي وقع في السودان، وَدعتْ إلى تعزيز الحكم المدنيّ في السودان، عبر الممارسة الديمقراطية واحترام الحريات. وذلك موقف متوقع، ووجد ترحيباً به من السودان، إذ هو داعم للصيغة السودانية التي تميّزتْ بتحالف مدني وعسكري لإدارة البلاد، في فترة انتقالية تعقبها حكومة تدير البلاد، تفرزها نتائج انتخابات. وبسبب شكوك والتباسات بشأن دور المكوّن العسكري في الفترة الانتقالية، وافقت الأمم المتحدة على إيفاد بعثة أممية طلبها السودان، وفق مقررات الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة لدعم التحوّل إلى حكم مدني كامل في البلاد. أما الولايات المتحدة، فقد قدّمت دعماً مفتوحاً للتحوّل المدني لحكم السودان، حمل حوافز عديدة لدعمه، على أن يبقى دور العسكر مقتصراً على مهمته التقليدية في حفظ الأمن والاستقرار وتقليص أنشطته الاقتصادية، وألا يسعى إلى الانفراد بحكم البلاد. إلى ذلك، بادرت الإدارة الأميركية الجديدة إلى إصدار توجيهات لقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) للتنسيق في ذلك مع الحكومة الانتقالية في السودان، مُنبّهة إلى ضرورة التزام توطيد أركان حكمٍ مدنيٍّ في البلاد، مع إبقاء المؤسسة العسكرية للقيام بدورها التقليدي.

في حالة انقلاب ميانمار، يخضع التوجّه الأميركي، وإن بدا حاسماً وصارماً، لحسابات دقيقة تتصل بجوانب اقتصادية، وأيضاً بجوانب أمنية

(5)
أما في حالة انقلاب ميانمار، فقد أبدت الإدارة الأميركية رفضاً صريحاً لحكم العسكر، وأصدرت جملة من العقوبات على الانقلابيين. ولكن بحسابات دقيقة، بحيث لا يضرّ الشعب في ميانمار الذي ظلَّ يعاني من أنظمة حكمٍ عسكريٍّ عبر سنوات طويلة، منذ الاستقلال عام 1948، توطدتْ خلالها سيطرة الجيش على مؤسسات اقتصادية وأمنية كثيرة. وتدرك الإدارة الأميركية، في تعاملها مع حالة ميانمار، تعقيدات الأوضاع السياسية في تلك المنطقة من العالم، إذ رسختْ فيها أنظمة شمولية وشبه شمولية، وشاعت فيها انتهاكات حقوق الإنسان. مع اتساع وتيرة الحراك الشعبي في ميانمار، الذي نجح، بذكاء شعبي، في حشد معارضته الانقلابيين عبر أساليب التواصل الاجتماعي (البلوتوث)، وليس عبر خدمة الإنترنت التي حجبها العسكر، فإنّ الشعب في ميانمار لن يعجز عن جعل حراكه منظوراً تحت بصر المجتمع الدولي ولاعبيه المؤثرين، بما يشكل ضغطاً متعاظماً عليه. ها هي الإدارة الأميركية الجديدة، وهي تخطو لتعزيز التزامها من جديد بإشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان في أنحاء العالم، في ميانمار كما في السودان، تلقي بضغوطها على البلدين، لكن الملاحظ أن الولايات المتحدة تميّز بين الحالتين.
(6)
في حالة انقلاب ميانمار، يخضع التوجّه الأميركي، وإن بدا حاسماً وصارماً، لحسابات دقيقة تتصل بجوانب اقتصادية، وأيضاً بجوانب أمنية. في الجانب الاقتصادي، تدرك الإدارة الأميركية سيطرة ميانمار على تجارة المجوهرات وثروتها الهائلة من الأحجار الكريمة في تلك المنطقة. ومن الناحية الأمنية، في جوار ميانمار ناحية الشرق، يتابع المارد الآسيوي الأقوى، الصين، ما يجري في منطقة نفوذه، خصوصاً وقد لعب الرئيس الأميركي السابق دوراً في إذكاء الخلاف معها. خلاصة الأمر، أن للمجتمع الدولي، عبر منظمته الأممية، وأيضاً للقوى الكبرى المؤثرة، دوراً في تعزيز التوجّهِ الديمقراطيّ في العالم، بما لن تصبح معه الأنظمة الانقلابية أو الشمولية قادرة على الاستمرار في الانفراد بحكم بلدانها. وانقلاب ميانمار لن يكتب له عمرٌ يمكّنه من الديمومة. وبشأن السودان، حملت الرسالة التي وصلت إلى انقلابيي ميانمار تحذيراً مبطناً إلى جنرالاته في المكوّن العسكري، ألا يستسهلوا أيَّ مخطط، وإن كان غير منظور الآن، للانفراد بحكم البلاد، بل عليهم تعزيز تحالفهم لتعضيد المكوّن المدني الذي يدير البلاد حالياً ودعمه، وصولاً إلى تهيئة البلاد بعد نحو عامين لحكم ديمقراطي، يعيد السودان عضواً فاعلاً في المجتمع الدولي.